في أعقاب حملة انتخابية مرهقة لإعادة انتخابه سيكون القرار الأشد إلحاحاً أمام الرئيس أوباما هو كيفية ردع إيران عن سعيها وراء برنامج نووي عسكري.
منذ وقت طويل كان زعماء الحزبين الأميركيين قد أعلنوها، أن ما من خيار مستبعد من أجل تحقيق هذا الهدف، وفي مناظرتهما الرئاسية الثالثة اتفق المرشحان على أن هذا الشأن يدخل ضمن المصالح القومية الأميركية وتناوبا في تحديد وصف الهدف كل بتعبيره الخاص، حيث قال أوباما :أن الهدف هو منع إيران من حيازة سلاح نووي أو (امتلاك القدرة على الإفلات)، بينما وصف مت رومني الهدف بأنه (منع ظهور إيران بقدرات نووية). وبينما كانت إيران منهمكة في تطوير قدراتها على التخصيب ونقل تلك القدرات إلى تحت الأرض أعلن رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو الربيع موعداً نهائياً للقيام برد. وسط هذا الجو المشحون، ترى ما هو المغزى العملياتي الذي يمكن أن يستشف من الأهداف الأميركية المعلنة؟
يبدو أن الولايات المتحدة وإيران دائبتان على إجراء مباحثات ثنائية فيما بينهما عبر مبعوثين رسميين أو شبه رسميين، وهذا خروج على النهج السابق الذي كان يعتمد المحادثات متعددة الأطراف. سجل المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني ليس مشجعاً، فعلى مدى ما يزيد على عقد من الزمن تمكّنت إيران من إعثار المحادثات التي أجريت مع مجموعة "إي يو– 3" (التي ضمت فرنسا وألمانيا وبريطانيا) ومن بعدها تلك التي أجريت مع مجموعة "خمسة زائد واحد" (التي ضمت أعضاء مجلس الأمن زائد ألمانيا)، وبقيت تناوب في إعطاء الإشارات ما بين المرونة حيناً وإبداء التصلّب حيناً آخر، وخلال ذلك كلّه كانت مستمرّة في توسيع منشآتها النووية وإخفائها وتشتيتها في أماكن عديدة، وما لم يوضع حد لهذه العملية فإن التقدّم التكنولوجي الإيراني سوف يسبق الأحداث. ولكن ما هي المرحلة التي ينبغي أن يحال عندها بين إيران وحيازة القدرة النووية العسكرية؟ وما هو الأسلوب؟ كان هذا السؤال في صميم الجدال الدائر بشأن موضوع "الخطوط الحمر".
تتألف عملية تطوير القدرة النووية العسكرية من ثلاث مراحل: منظومة الإطلاق، والقدرة على تخصيب اليورانيوم، وإنتاج رأس حربي نووي. وقد تمكّنت إيران حتى الآن من زيادة مديات وأعداد منظوماتها الصاروخية منذ العام 2006 على أقل تقدير، كما وسّعت قدراتها على التخصيب إلى آلاف من أجهزة الطرد المركزي (وهي الأجهزة التي تخصّب اليورانيوم إلى أن ترفع درجته إلى المستوى المناسب لإنتاج القنبلة) ولم تطلع الوكالة الدولية للطاقة النووية على هذه القدرات بشكل وافٍ. هذا المستوى من التخصيب يتجاوز أي تعريف معقول لما يمكن وصفه بالإستخدام السلمي، على النحو الذي سمحت به اتفاقية حظر الإنتشار، لذلك فإن الذروة النهائية المؤكدة لهذا الجهد لابد أن تكون إنتاج السلاح النووي.
لهذا السبب يحاجج البعض بأن محاولة رسم خط يضمن منع إيران من بلوغ السلاح النووي مسألة تصعب السيطرة عليها. ومتى ما اكتمل إنتاج الكميات المطلوبة من المواد الإنشطارية فإن عملية بناء وتجهيز الرأس الحربي ستكون سريعة نسبياً ومباشرة من الناحية التقنيّة، وسيكون من شبه المستحيل الإنتباه إليها قبل فوات الأوان.
فإذا كان الخط الأحمر، الذي أنتجه عقد كامل من المساعي الدبلوماسية التي قام بها أعضاء مجلس الأمن، عقيماً إلى هذه الدرجة فلابد أن تكون النتيجة إذن انتشاراً للأسلحة النووية خارجاً عن حدود السيطرة في عموم منطقة تغلي بالثورة وثارات الدم الطائفية. كل هذا سيمكّن إيران من تحقيق وضع مشابه لما حققته كوريا الشمالية التي يقف برنامجها النووي العسكري على حافة المرحلة العملياتية. ولو حدث هذا فإن الدول التي تمتلك سبيلاً إلى الخيار النووي سوف تتسابق لاختزال الزمن والحصول على القدرة النووية الكاملة في أقصر وقت ممكن. خلال هذا سوف تجد الدول الواقعة ضمن نطاق تأثيرات إيران العسكرية والمفتقرة إلى القدرات النووية أنفسها مضطرة لإعادة ترتيب أوضاعها وتحالفاتها السياسية تجاه طهران. الآثار المترتّبة على ذلك سوف تؤدي إلى طمس سائر التوجّهات الإصلاحية التي أفرزها الربيع العربي – وهي توجّهات تعاني ضغوطاً شديدة منذ الان. أما الرؤية التي يتبناها الرئيس أوباما بشأن التقدّم في مجال خفض الأسلحة النووية في العالم فسوف تمنى بضربة قويّة ربما تكون القاضية.
يجادل البعض بأنه حتى لو تحقّق أسوأ السيناريوهات سوف يبقى بالإمكان ردع إيران النووية. بيد أن هؤلاء يتناسون حقائق الردع ابان حقبة الحرب الباردة، تلك الحقائق المعقّدة الهائلة التكاليف المبتلاة بالتوتّرات، ويتجاهلون الضغوط الرهيبة داخل نظام الحكم الديني في إيران والإحتمال الذي يقرب من اليقين بأن عدداً من القوى الإقليمية سوف تتوجّه توجهاً نووياً إذا ما نجحت إيران في ذلك. وعندما تصاغ التوازنات النووية في ظروف لا تكون التوتّرات فيها ثنائية الأطراف حصراً (كما كان الحال في فترة الحرب الباردة) وبين بلدان لم تستوفِ مراحل تطوّرها بعد ولا تمتلك من الوسائل لدرء وقوع الحوادث سوى تكنولوجيا بدائية، فإن احتمالات اللجوء المتبادل إلى السلاح النووي تأخذ بالتعاظم بشكل دراماتيكي.
هذا السبب بالذات هو الذي جعل الولايات المتحدة تصرّ على فرض حدود معيّنة على التخصيب الإيراني – أي تضييق المجال أمام حصول إيران على العناصر البادئة التي تبني منها سلاحاً نووياً. مجموعة (خمسة زائد واحد) تخلّت عن المطلب الأصلي الذي يمنع أي شكل من أشكال التخصيب وراحت تتحرّى ما هو مستوى إنتاج المواد الانشطارية الذي يمكن أن يأتي متوافقاً مع الاستخدامات السلمية التي تجيزها معاهدة حظر الاتشار. ولكن كلما ارتفع المستوى المسموح به تقلّص الوقت المطلوب لتحويل تلك المواد إلى منتجات أخرى قابلة للاستخدام العسكري، وعلى هذا الأساس تملي علينا الحكمة أن يكون أعلى حد للتخصيب يفرض عمليّاً هو خمسة بالمئة لا أكثر، وحتى هذا الحد ينبغي أن يكون مشروطاً بالاتفاق على كميّة معيّنة من المواد الانشطارية يحال كل ما يزيد عليها إلى خارج إيران لحفظه في مكان آمن.
الوقت المتاح للتوصل إلى حلول دبلوماسية يتقلّص في تناسب مباشر مع تنامي قدرات التخصيب الإيرانية وقرب امتلاك سلاح نووي عسكري، لهذا ينبغي على العملية الدبلوماسية أن تنتهي إلى نقطة اتخاذ قرار. على مجموعة (خمسة زائد واحد) أو الولايات المتحدة، كل من جانبه على انفراد، وضع برنامج دقيق للحد من التخصيب الإيراني يتضمّن مواعيد زمنية محدّدة.
هذا القول لا يعني أن يكون هناك خط أحمر يجيز لبلد ما أن يشنّ حرباً من جانبه. إذ مهما بلغت درجة احترامنا لوجهة نظر أصدقائنا لابد أن يبقى القرار النهائي المتعلّق بالسلم والحرب في يد رئيس الولايات المتحدة. قد يدور في البال سؤال: ما السبب الذي يدعونا للتفاوض مع بلد يبدي كل هذا القدر من العداء والمراوغة؟ والجواب هو أن هذه الظروف المشحونة بالذات هي السبب. فالدبلوماسية يمكن أن توصلنا إلى نتيجة مرضية متفق عليها، أو أن تفشل وعندئذ سيحرّك فشلها الشعب الأميركي والعالم أجمع. لذا فإن الدبلوماسية من شأنها أن توضح واحداً من أمرين، أما أسباب الأزمة المستمرّة في التصعيد، وربما تصل إلى مستوى الضغط العسكري، أو دواعي القبول في نهاية الأمر بالبرنامج النووي الإيراني. وأي من هاتين النتيجتين سوف تتطلّب وجود استعداد للمضي في الأمر إلى أن يبلغ عواقبه النهائية، لأننا لن نستطيع تحمّل أعباء كارثة ستراتيجية أخرى.
بعد ذلك، وعلى قدر ما تبدي إيران من رغبة واستعداد للتصرّف على أساس أنها دولة قوميّة لا مجرّد قضيّة دينيّة ثوريّة، وعلى قدر تقبّلها لما يفرض عليها من عمليّات التثبّت والتدقيق، سينبغي بالمقابل النظر إلى أسباب القلق الأمني الإيراني بعين الجدّ، بما في ذلك التخفيف التدريجي للعقوبات بالتوازي مع خطوات فرض وتطبيق الحدود الصارمة على عمليات التخصيب. ولكن الوقت هنا عامل عاجل وملحّ، وعلى طهران أن تعي أن البديل عن التوصّل إلى اتفاق لن يكون ببساطة إعطاءها شوطاً جديداً من المفاوضات، عليها أن تفهم أن استغلال المفاوضات للمماطلة وكسب مزيد من الوقت ستكون له عواقب وخيمة. ربما كان لا يزال بوسع الدبلوماسية الخلاّقة المسندة بستراتيجية حازمة أن تحول دون وقوع أزمة، ولكن بشرط أن تلعب الولايات المتحدة دوراً حاسماً في تحديد النتائج التي يمكن القبول بها.
607 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع