إبراهيم الزبيدي
عندما غادرت العراق في أواخر عام 1973 كانت بغداد خضراء، زاهية، آمنة، بسيطة، حميمة، تضج لياليها بالسهرانين الفرحين، وصباحاتـُها الباكرة بالخارجين من منازلهم إلى أشغاهم برضا عميق وقناعة هادئة وتفاؤل لا يتوقف عن الجريان في نفوسهم. فيتحلقون حول أباريق الشاي ورائحة المشاوي، أو يتزاحمون على دكاكين الكاهي والقيمر والباقلاء.
لم نكن نعرف السرقة ولا المخدرات بكل أنواعها. وحين كنا نسمع، في كل عشر سنوات مرّة، بحادثة سطو أو قتل كان العراقيون جميعهم يتعجبون من ذلك العراقي المنحرف الذي سرق أخاه العراقي أو قتله. وحتى ما كان يحصل في الانقلابات العسكرية الدامية، من انتقام وتصفية حسابات بين رجال عهد سقط ورجال عهد سوف سيسقط، كان يحدث كل شيء في أيام أو أسابيع أو شهور، ثم تعود الحياة العراقية بسرعة إلى هدوئها وانسيابها الهاديء الرزين، ويصبح ما حدث وكأنه غمامة صيف.
وبعد غياب تسعة وعشرين عاما حملتني الطائرة الأردنية من عمان إلى الوطن صباح أحد أيام شهر أيار/ مايس 2003، فرأيته، من الطائرة، أرضاً يابسة غبراء، وأنهاراً هرمة أنهكها النبات الطفيلي الذي نبت في مجاريها، ومنازلَ ألوانها متعبة وبلون التراب الأصفر الكئيب. أسواقها مقفرة من الزبائن والبضائع. الناس متخلّفون عن باقي الشعوب المجاورة أكثر مما توقعت بكثير. لم يعرفوا الهاتف الجوال، ولا الكمبيوتر المحمول، ولا الصحون اللاقطة التي تستقبل الفضائيات، ولا مكائن سحب النقود الآلية المتناثرة في الشوارع والدكاكين، من المحيط إلى الخليج، ولا ما يسمى بـ"الكرِدِت كارت" الذي أصبح العالم كله يشتري ويبيع بواسطته بدل النقد الكاش، ولا السيارات الجديدة، ولا الملابس المتجددة مع كل فصل أو موسم أو موظة، ولا الطعام الصحي الخالي من السكريات والدهون، ولا أماكن الرياضة وتنمية العضلات، ولا ساحات الغولف والجري وممارسة رياضة المشي أو رياضة الدراجات، ولا السفر إلى الخارج للراحة والاستجمام، ولا الطب الحديث وما يستجد من أجهزته وأدواته وأدويته لا كل عام بل كل شهر وكل أسبوع، وربما أيام. ماذا حلّ بأهلنا في العراق العزيز؟
لم نكن نعرف هذا التدافع الأناني الخشن في الشوارع، ولم نكن نركب الأرصفة ونحتل الشوارع لنجعلها دكاكين ومعارض. لقد اختفت عبارة "تفضل أغاتي". كنت إذا أردت أن تدفع لأحد ثمن بضاعة أو خدمة يرفض في البداية، ويحلف عليك ويقول لك: "خليها علينا هالمرة أغاتي"، وهو أحوج ما يكون إليها.
ورغم كل هذه المناظر المحزنة كنا مُؤمنين بأن (ماما أمريكا) تريدنا، فعلا، أن نضع خبراتنا وعشقنا للعراق، (نحن الخبراء العراقيين الـ 160 العائدين من المنافي)، في خدمة مشروع إعادة تأهيل الدولة العراقية، على أسس ديمقراطية حقيقية تعيد إلى أهلنا أمنهم واستقرارهم وعافيتهم، بعد زمن صعب وشاق وطويل.
وفي عز ثقتنا الكبيرة بقدرتنا على تحقيق الحلم الديمقراطي الجميل تملكنا خوف عميق ونحن نرى سياسيين ومعممين وسماسرة مشاريع وصفقات وعمولات يتكالبون على صحبة الأمريكان بالولائم الباذخة، والهدايا المجزية، والسهرات الصاخبة، بعضُهم باسم المظلومية الشيعية، والبعض الآخر باسم العشق الساخن للديمقراطية، والبعض الثالث باسم الفيدرالية واستعادة الحقوق المغتصبة، خصوصا وأننا كنا عرفناهم جيدا، وخبرنا وطنيتهم ونقاءهم وعدالتهم وديمقراطيتهم، من أيام المعارضة ومؤتمراتها الباذخة.
ومن الأيام الأولى بدأوا حربهم الضروس، بجميع الأسلحة والوسائل، ضد كل من يحاول منعهم من اختلاس الوطن واقتسامه بقوة السلاح والطائفة والدين. وأثبتوا أن كل ما كانوا يتغنون به من عدالة ومساواة ونزاهة وتداول سلمي للسلطة كان مجرد خداع ونفاق واحتيال.
ولم يمض وقت طويل حتى اندلعت الشرارات الأولى لإرهاب البعثيين الذين ركبوا موجة مقاومة الاحتلال، وبدأوا يوقظون النوازع الطائفية والعنصرية في الشارع الوطني العراقي (السني)، بشكل خاص، ويؤسسون، باسم المقاومة والدفاع عن سيادة الوطن، لحروب الكراهية والعنف والانتقام.
فكان أول ما فكرنا فيه أن نستثير جماهير العراقيين، ونحشد قواها كلها في مواجهة الإرهاب الذي يوشك أن يحرق الأخضر واليابس، ويأخذ الوطن إلى خراب جديد من نوع جديد.
فدَعوْنا إلى اجتماع تداولي حضره مندوبون عن جميع القوى السياسية الفاعلة، شعبية وحكومية، من أجل إطلاق حملة شعبية واسعة ضد الإرهاب بكل ألوانه ومصادره، ولخلق تيار جماهيري عابر للطوائف والقوميات والأديان يتصدى للإرهابيين، ويمنعهم من إعاقة إعادة البناء والإعمار،ووأد الديمقراطية الوليدة.
وكان أهم المشاركين في اللجنة التحضيرية وأبرزهم: الحزب الشيوعي العراقي، المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، حزب الدعوة، التيار الصدري، مجلس الحكم، الحزب الديمقراطي الكردستاني، الاتحاد الوطني الكردستاني، الائتلاف الوطني العراقي، جمعية السجناء الأحرار، أمانة العاصمة، الحركة الوطنية العراقية، حزب كادحي كردستان، جمعية السجناء الأحرار، الجبهة التركمانية العراقية، نقابة الأشراف في العراق والعالم الإسلامي، اتحاد الطلبة العام، اتحاد الشبيبة الديمقراطي، نقابة المحامين، نقابة الصحفيين، منظمة الصليب الأحمر الدولية، منظمة حقوق الإنسان، المجالس البلدية، ومجلس إعادة الإعمار والتطوير IRDC .
ونجحت اللجنة التحضيرية في دفع الجاليات العراقية في الخارج إلى التظاهر في نفس اليوم، دعما لمسيرتنا في بغداد، بالتزامن مع تحضيرات في المحافظات الأخرى لنفس الغرض.
في اليوم التالي لاجتماع اللجنة التحضيرية دعاني مجلس الحكم، وكان رئيسه يومذاك السيد جلال الطالباني، لأعطيه فكرة عن تفاصيل المشروع، وآليات تنفيذه، وشعاراته، وقائمة المشاركين فيه. وفي ختام العرض الذي أعجبهم كثيرا رجوت رئيس المجلس وأعضاءه إلزام أحزابهم ومن ينتدبونه للمشاركة في التظاهرة بعدم إدخال أي سلاح إلى المسيرة، وعدم رفع أي صورة أو شعار غير ما قررته اللجنة التحضيرية، فوافقوا جميعهم بحماس، بل وافقوا أيضا على ألا يرافق العضو أو الوزير الذي يرغب في المشاركة أيٌ من أفراد حمايته المسلحة.
ومن الساعات الأولى من صباح يوم 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2003 غصت شوارع بغداد بمئات الآلاف من المواطنين المندفعين بوطنية خالصة. وقدرت الطائرات السمتية العسكرية الأمريكية عدد المتظاهرين بمليون ونصف، قياسا بعدد الأشخاص الممكن تواجدهم في المتر المربع الواحد، في جميع الشوارع المؤدية إلى ساحة التحرير.
لكننا فوجئنا بطوفان من المسلحين، من التيار الصدري والمجلس الأعلى للثورة الأسلامية، ومنظمة بدر، يخترقون المسيرة ويهيمنون على أجوائها، بعشرات من الرايات والشعارات وصور الخميني، وكان كل منهم يزاحم أخاه الآخر أمام المنصة ليظهر على شاشات العشرات من الفضائيات التي احتشدت لنقل هذا المسيرة الصاخبة. ولم يخلُ الأمر من مشاحنات واحتكاكات وتحديات بين إخوة السلاح. بعبارة أوضح. لقد خربوها وأفسدوا عينا مشروعنا النقي الجميل.
ويومها تسلل الالقلق والإحباط إلى نفوسنا، وأدركنا أننا ننفخ في قربة مقطوعة، وأن سفائننا تعاند الرياح العاتية، المدمرة. فإيران داخلة علينا بقوة سلاح وكلائها، لاحتلالنا، ولن تدع لأحد منا أملا في راحة بال وأمن وديمقراطية وسلام. وأذكر، يومها أن أحد زملائنا في مجلس إعادة الإعمار قال ساخرا: "ما أحلانا ونحن نواجه إرهاب البعثيين بإرهاب المعممين".
فليس صعبا أن نرى صورة العراق القادم كيف ستكون. فالسلاح لابد ان يستدعي السلاح. والعنف لابد أن يلد العنف، وهيمنة طرف واحد على الدولة لابد أن يدفع بالطرف الآخر إلى التمرد والعناد والرغبة في إسقاط الدولة المتحيزة. ومن هذا كله لابد أن تتحول الحياة إلى غابة محترقة تحنق أهلها بالدخان والدموع والدماء.
ومن أيامهم الأولى من حكم غرور القوة والرغبات الجامحة في الانتقام تمكنوا من إقناع بريمر بحل الجيش والأمن والمخابرات والإعلام ورمي مئات الآلاف من موظفيها، غير البعثيين، أو من البعثيين الهامشيين، أو المنتمين إلى البعث اضطرارا من أجل لقمة العيش، واضعين أمام جحوش النظام السابق جحافل متطوعة من الناقمين المتضررين الباحثين عمن يوفر لهم كفاف اليوم.
لم يحترموا القضاء ولم يفتحوا أبوابه لكل من له ظلامة ضد معتدٍ أو ظالم أو خصيم، أيا كان ومن أي حزب جاء. وحتى قانون اجتثاث البعث الذي ابتدعوه حولوه إلى وسيلة ارتزاق يبيعون بأحكامه صكوك الغفران والبراءة لبعثيين أخطر من صدام حسين نفسه على البلاد والعباد. باختصار إنهم لم يعدلوا. لقد فتحوا على أنفسهم وعلى بلادهم وعلى المنطقة كلها أبواب جهنم التي يتقلب فيها، هذه الأيام، شعبُنا وأهل سوريا على الجنبين. كلــُه بفضل جارتنا العزيزة إيران التي لو كانت قيادتها أكثر فطنة وحنكة لكسبت أعداءها قبل أحبابها بحسن السلوك والرحمة، وبإعمار الوطن المخرب لتقدم للعراقيين مثالا موضوعيا مقنعا بأنها أرحم من صدام حسين على الشعب العراقي الجار الشقيق، وأكثر عطفا على سنته قبل شيعته، ولكانت صورة الولي الفقيه مؤطرة مُذهبَة في كل دار في تكريت والرمادي والموصل، قبل النجف وكربلاء وسوق مريدي.
تخيلوا شكل العراق لو لم تتسلل إلى حياتنا الأصابع الإيرانية المتخلفة الغبية المتطرفة المتعنتة، تحت سمع الإدارة العسكرية والمدنية الأمريكية، وتبريكات المرجعية، وأنانية السياسيين وجوعهم إلى جاه وسلطة ومال. مؤكد أنه كان سيصبح دولة مدنية متحضرة مسالمة تحترم كرامة البشر وتحافظ على حرياتهم وحقوقهم وتساوي بينهم أجمعين .
ومن ذلك اليوم ونحن نتخلف باضطراد. نعود إلى الوراء، عاما في كل يوم، وسنوات كل عام. ومع كل انتخابات (خنفشارية) يُجرونها تحت حمايتهم وإدارتهم وإشرافهم، ويفوزون فيها دون منافس، بقوة المال والسلاح الأمريكي والإيراني، كنا نـُرحّـل آمالنا إلى الانتخابات التي ستأتي بعدها، ومن هذه الحكومة إلى التي سوف تعقبها، ومن هذا البرلمان المنافق إلى آخر قد يكون أقل طائفية واختلاسا وانتهازية، وأكثر وطنية ورجولة وشهامة، دون أن نرى لهذا الغضب النازل علينا نهاية.
هذا هو الوطن المُحرر الديمقراطي الجديد الذي صنعته لنا العزيزة إيران ووكلاؤها الأمناء. فمن حريق إلى حريق، ومن فضيحة إلى أخرى، ومن جوع إلى جوع، ومن سرقة إلى سرقة أكبر، ومن قتال إلى قتال، ومن احتلال إلى احتلال، ومن دمار إلى دمار.
إنهم هم الذين صنعوا داعش وأعانوه على الانتشار والقوة والاحتلال، وهم الذين يطبلون، اليوم، ويزمرون، ويتنادون بالجهاد تحت راية قاسم سليماني وهادي العامري وقيس الخزعلي لطرد داعش من الرمادي، وهم كاذبون.
1778 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع