د. تارا إبراهيم - باريس
في احدى جولاتي بالقطارفي العاصة الفرنسية، دخل رجل يحمل على ظهره طفلا لا يتجاوزعمره عاما واحدا، الطفل كان داخل عربة مخصصة للحمل على الظهر. الامر كان طبيعيا بالنسبة للجميع، ولكن ربما لي لم يكن كذلك ، فالرجل كان كفيفا ، وكانت في يده عصا للإستدلال على الحواجز أوالعوائق التي قد تعترضه في سيره.
أمعنت النظر في هذا الوالد الذي على الرغم من عوقه، فهو يتجول في العربة كأي شخص سليم دون أي مشكلات، على الرغم من صعوبة التنقل في داخل القطارات عموما ..تابعته بنظراتي، وصادف نزولنا معا في المحطة نفسها، اقتربت منه لمعرفة فيما اذا كان بحاجة الى مساعدة للخروج من القطار وارشاده الى الاتجاه الذي يود الذهاب اليه، إلا انه كان يعرف طريقه بشكل جيد دون طلب مساعدة الاخرين ..امر اثار اعجابي بهذا الرجل ...
وفي اليوم نفسه وفي موقف آخر، صادفت فتاة قصيرة القامة (قزمة) في محطات القطاروهي تدفع فتاة قزمة معوقة على كرسي متحرك...امر اثار اعجابي للمرة الثانية وتساءلت مع نفسي، كم هو غريب ان الاحظ هاتين الحالتين في نهار واحد، وكأن هنالك رسالة ذات مغزى موجهة الي وعلي التفكيروالتمعن فيها ..
هذه السنة تم قبول طالبين معاقين للدراسة في قسمنا وكلاهما يستعملان كرسيا متحركا للتنقل، احدهما لديه شلل نصفي ومشكلات صحية اخرى ، والثاني يعاني من تاخرعقلي طفيف ومصاب بمرض غريب يمنعه من المشي..هذان الطالبين اصبحا مفخرة قسمنا بل وكأنهما جوهرتان يجب الحفاظ عليهما كالحفاظ على حدقات اعيننا ، لدرجة ان القسم اجرى الكثير من التغييرات على قاعات المحاضرات والمختبرات التي تم تغييرها كليا لتتلاءم مع حجم الكراسي المتحركة، وتم شراء مناضد عالية كي تتناسب مع ارتفاع الكراسي، واستخدام الكمبيوترات المحمولة بدلا من الثابتة..الخ.
اعجابي بهذين الطالبين كان كبيرا وإعجابي كان أكبربالنظام الجامعي الذي منحهما فرصة الدراسة في ارقى جامعاته، فهنالك ممرضة في قسمنا تشرف عليهما باستمرار، وطبيبة نفسية تستقبلهما كبقية الطلاب، وفي الوقت نفسه هنالك باحثة اجتماعية تتولى الاهتمام بهما وبعلاقاتهما مع الطلاب الآخرين.
ففي اول محاضرة لي بوجود احد هذين الشابين، دخلت الباحثة الاجتماعية للتحدث مع الطلاب، فقامت اولا بشرح مرض زميلهم لكي يكونوا على دراية بحالته الصحية ، وفي الوقت نفسه شرحت لهم كيفية التعامل معه، وخصوصا عندما يرن جرس الانذار في القسم عند حدوث حالات الطوارىء..ومن ثم طلبت ان يتطوع احدهم لمرافقته ومساعدته في واجباته ومحاضراته، وتناول الطعام معه كي لا يشعربالوحدة . ومما اثار اهتمامي ان جميع الطلاب قاموا برفع ايديهم ليصبحوا مرافقيه...
هذه البلدان تتيح الفرصة للجميع دون اي تمييز كي يكونوا كيانا فعالا في المجتمع دون النظرالى ما لديهم من عوق أو غير ذلك ، هو امرفي غاية الاهمية، فالعوق هو ليس نهاية الحياة، ولكن يجب التعامل والتعايش معه بحكمة . فالحكومة تقوم بدفع مصاريف العلاج وبصورة مجانية لهم، كما تمنحهم راتبا شهريا وتقلل الضرائب عن والدي المعاقين تعاطفا وتضامنا معهم .فهنالك بنية تتيح للمعوقين التمتع بكل مقومات الحياة العصرية وتكيفهم ليتأقلموا مع الاجهزة المتاحة التي يستخدمونها من مصاعد وممرات خاصة للكراسي المتحركة اثناء ممارسة حياتهم اليومية..
584 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع