إبراهيم الزبيدي
لقد وضعت الاحتجاجاتُ الشعبية العراقية الأخيرة جميع الأطراف في مأزق.
فالمرجعية، ومعها حيدر العبادي والنصف الحمائمي في المعسكر الشيعي الحاكم، ليس في إمكانها، ولا من صالحها، مُجاراة الجماهير إلى ما لا نهاية، خصوصا إذا ما أصرت على تغيير جذري في أسس النظام وآلياته جميعها.
وإيران، ومعها نوري المالكي وجميع قادة الأحزاب والفصائل والمليشيات المشتقة من الحرس الثوري، فإن إصرار المتظاهرين على طرد أحزابها ومليشياتها من السلطة الحاكمة في العراق، يحرجها ويفقدها هيبتها، وجبروت نفوذها في العراق، وربما في الدول العربية الأخرى. ولا يمكن لها أن توافق على ما يريدون، ولا الصبر على استمرارهم في التظاهر ضد وكلائها. ولكنها، في الوقت نفسه، تخشى استخدام القوة لتفريقهم لتفريقهم، وأمامها نتيجة استخدام القوة ضد المتظاهرين المدنيين السوريين السنة. ثم إن المتظاهرين العراقيين شيعة، وهي التي أقامت كيانها وخطابها على أساس أنها زعيمة الشيعة في العالم، وأنها في العراق لنجدة الطائفة وحمايتها من داعش والقاعدة والوهابيين.
أما المتظاهرون، وأغلبهم وطنيون علمانيون، فهم أمام احتمالين لا ثالث لهما. فإما أن يصمدوا إلى نهاية الطريق الشاق، وهذا يعني المواجهة الحاسمة مع الحشد الشعبي (الإيراني)، ومع جواسيس الحرس الثوري، وربما قوى أمن الحكومة العراقية ذاتها، بمختلف الحجج والمبررات، وإما أن يتراجعوا ويكتفوا بترقيعات حيدر العبادي الهامشية، مع بقاء حزب الدعوة والجلس الأعلى والتيار الصدري والفضيلة ومليشيات الحشد الشعبي في المواقع ذاتها، واستمرار الخراب والفساد والفقر والتخلف، وهذا ما سوف يفقدهم ثقة الشعب العراقي واحترامه، ويعرض قياداتهم الفاعلة للتصفية الناعمة، بالاغتيال أو الاعتقال، او التضييق لحملهم على مغادرة العراق.
إن نظام الخميني الذي قاتل ثماني سنوات لاحتلال العراق، وضحى بمئات الآلاف من من القتلى والمشوهين والمفقودين، وأنفق مئات المليارات من الدولارات، لن يُفلته من يده ببساطة، هذه المرة.
فليست مصادفة، ولا حدثا عابرا، إذن، أن يُستقبل نوري المالكي في إيران بتلك الصيغة المُستغرَبة ذات المستوى الأعلى من الاعتيادي من التبجيل والتعظيم، ومن الكم الهائل من كتابات صحف النظام، وخاصة صحافة الحرس الثوري، عنه وعن عبقريته، وعن توصيفات المرشد الأعلى لجهاده وخدماته لسوريا وللمقاومة والصمود، وهو المطرود من منصبه الرسمي العراقي، والمحال إلى القضاء بقرار من برلمان أكثريتُه شيعية موالية لإيران ذاتها. إنها، ولا شك، رسالةٌ مقصودة موجهة إلى المتظاهرين العراقيين، أولا، وثانيا لحيدر العبادي، وثالثا للقوى الإقليمية والدولية الحالمة بإشعال حربٍ شيعية عراقية ضد النظام الإيراني في عقر داره العراقي، تقول، وبالقلم العريض، لا للتظاهرات، ولا لكل ما جاء منها، وما ما قد يترتب عليها، وأنه لن يقبل، ولن يتسامح مع أية محاولات جدية للإخلال بأمن جوهرة مستعمراته الغالية.
نعم قد يتساهل ويوافق على حرق بعض الوجوه المحسوبة عليه، أو بعض خُدامه في المعسكر الديني الشيعي الحاكم، ولكن ليس خارج الحدود التي يسمح بها، ولا بغير ما يُنسبه، هو، ويوافق عليه.
فالفساد المالي والسياسي والإداري في العراق، ونقص الخدمات، وإفراغ الخزينة، وتسفيه التربية والتعليم، وتلغيم الأمن والأمان، وتخريب علاقات الدولة العراقية مع محيطها العربي والإقليمي والدولي، واغتيال العلماء والمثقفين والمفكرين العراقيين، وإغراق الوزارات والمؤسسات والسفارات بالفاشلين ومزوري الشهادات واللصوص، وتكثيف حملات التضليل والتجهيل والتخريف، كلها، صناعة وزراعة إيرانية خالصة، وسياسة مقررة ومعدة بحنكة ودراية لجأ ويلجأ إليها نظام الولي الفقيه لإدامة احتلاله، ولقتل روح المقاومة في العراقيين الذين قاتلوه ثماني سنوات.
وكل رؤوس الفساد الكبيرة التي يطالب المتظاهرون باجتثاثها هي رؤوس قادة أحزاب ومليشيات تعب النظام الإيراني في حَمْلِهم وولادتهم وإرضاعهم، وأنفق المال الوفير، والجهد الجهيد، في إعدادهم، وتقوية نفوذهم، وحمايتهم من أي مكروه. وحين ينادي متظاهرون وطنيون، تحرقت قلوبهم من شدة الظلم وطوله، باجثاث جميع هؤلاء الفاسدين المفسدين، والنظام الفاسد الذي بنوه واحتموا بظلاله، إنما يتخطوْن حدودهم، ويمسون الباب العالي، ويعلنون نفيرا عاما عراقيا لطرده من بلاد الرافدين.
وما إقدام زمرٍ من شبيحة هادي العامري وقيس الخزعلي، في الأسبوع الماضي، على اقتحام ساحة التحرير ببغداد، وإشباع المتظاهرين ضربا بالعصي والسلاسل والقضبان المطاطية، إلا (فركة أذن) خفيفة لقادة الاحتجاجات، وقد تصبح في المرة القادمة، صَلما لآذانهم إن لم يفكوا رموز الرسالة.
فلولا إيران، وعدوانية حرسها الثوري، وعنجهية وكلائه العراقيين واللبنانيين، لما كان بشار أسد، ولا نوري المالكي، ولا هادي العامري، ولا عبد الملك الحوثي، ولا باقي زمرة القتلة المجانين. فالملالي، حتى في إيران ذاتها، لا يشعرون بالغثيان إلا حين تطالبهم الجماهير بالحرية والعدالة وسلطة القانون. ومعلومٌ ومسجلٌ وموثَّقٌ ولعُ أجهزة قمعهم بكتم أنفاس مواطنيهم، وبتكسير ظهورهم، وتقطيع ألسنتهم، حتى وإن كانوا من عظام الرقبة، ومن أبناء خيمة الأمام الخميني نفسه. فكيف إذا لم تكن تلك الجماهير الثائرة من عبيدهم، ولا من تابعيهم وجواسيسهم؟
لا أريد هنا أن أشيع الخوف في قلوب المتظاهرين الوطنيين الشجعان، ولكن أريدهم فقط أن يستعيدوا تجارب الشعب السوري الشقيق، ويدرسوا أدق تفاصيلها، وخاصة بداياتها السلمية التي لم تتجاوز الهتاف باسم الحرية والكرامة وسلطة القانون، وأن يجتنبوا الشطط والمغالاة، وألا يذهبوا بعيدا في مكاسرة الثور الإيراني الجريح، وخاصة في موسم هزائمه المتلاحقة في سوريا واليمن والبحرين والكويت.
وهذا ما يفرض على قادة الحراك الشعبي أن يكونوا أشطر من غيرهم في قراءة الجغرافيا والتاريخ وأكثر عمقا وعقلانية، وأن يعرفوا كيف يستثمرون هذا الشلل في ردود الفعل الإيرانية على تظاهراتهم، وأن يخوضوا معاركهم مع نظام الولي الفقيه بعلمية وموضوعية، ودون دماء، وأن يعمدوا إلى سياسة تسقيط أعمدة النظام بالتجزأة، وبالخطوة خطوة.
ولعل الأهم من كل ما سبق أن يفتحوا عيونهم على أخرها لمنع جواسيس الحرس الثوري، وعصابات الجماعات الفاسدة المستفيدة من النظام، من الاندساس على مسيراتهم، لتخريبها من داخلها، بتديينها وتسييها، أو بعسكرتها وافتعال الصدام.
1766 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع