بقلم/ حامد خيري الحيدر
برتابةٍ ونسق كان تلاطم مويجات النهرعلى ضفته، مُشعراً كل من يتأمل تلك الحركة الديناميكية المتواصلة من أخذ ورد بالنعاس، مذكّرة من يرنو بتمعن لتتابعها بغرائب الحياة ونقائضها، من تدفق وأقبال أحياناً جالبة معها شيئاً من الخير وبعضاً من نفحات الامل، أو انحسار وأدبار في أخر تاركة خلفها همومها وآلامها وهباء زبَدها.....
وضعت رأسها بين راحتيها منتظرة قدومه المعتاد في هذا الوقت، حيث بلغ انعكاس وهج الشمس على صفحة المياه الواسعة أشده، بعد أن غدت واهبة النور شديدة الاحمرار محاولة أرسال كل ما تبقى لديها من ضياء قبل أن تغادر يومها الطويل.... يا ترى هل سيأتي أم سينفذ هذه المرة رغبته القديمة بالسفر؟ أصبح الرحيل هاجسه وحلمه رغم مرارة البعاد عن (أوروك) الحزينة، تلك الجميلة الغافية على دموع الفرات، السابحة مع آهات مظلوميها، الحائرة بأمنياتهم الصغيرة ، الحالمة منذ يومها بمستقبلٍ أخضر جميل..... ليس لنا رجاء في مدينة أمسى الناس فيها عبيداً للمجهول، ليكون قادم أيامهم أحجية لا أحد يعرف كيف ومتى ستحل طلاسمها، كما عمّرت الآلهة (أوروك) هي كذلك شيدت بلاداً ومدناً أخريات يمكن اكمال مسيرة حياتنا المتعثرة فيها..... هكذا كان يقول دوماً مبرراً الهجرة راسماً معها ملامح غد جديد يضم بين ثناياه ولو نزر يسير من انسانية البشر وكرامتهم..... رغم أمنيته التي طرّزها اليأس، كانت هي تحيا عالم وردي بعيد، لا يوجد ألا في مخيلة الملائكة، حيث الأمل ومثالية أحلامه هو ما تملك أفكارها الغضة البريئة، فأقسمت على التشبث بمدينتها حتى آخر رمق من حياتها، جاعلة منها قدراً أبدياً ارتضت احتمال جراحه، لتصّبر ثورته وعنف غضبه محاولة ثنيه عما تسرب الى قلبه من بؤس تلكم الأمنيات وهمومها.... لن يكون رحيلنا عن (أوروك) سوى جبناً وهروباً.. مدينتنا لم تكن يوماً مجرد نسمة عذبة أستنشقنا برودتها لنطلق زفرة وجعها عند قسوة محنتها، كانت أماً رؤوماً أستظل الجميع بعطفها، هي اليوم بحاجة لأبنائها، لحبهم لها وتشبثهم بها، هذا من سيعيد جمال (أوروك) ويرجع لها بسمتها الغائبة..... ليعود للقياها عند موعدهم الذي الفته ساعة الغروب وشاعريتها، طارداً تلك الفكرة العبثية عن حشايا مخيلته.. محتضناً اياها.. أنها (أوروك) أيتها الحبيبة، كيف أترك الفاتنة التي جُبّلنا على الهيام بها منذ أن أبصرت عيوننا زرقة السماء، وكتبت مصائرنا دوامة الأيام، رغم آلامها وآلام أهلها ستبقى هي الملاذ والعشق الذي لن ينتهي..... لقد تأخر اليوم عن موعده.. لعل طارئاً ما قد أخره، لكنه حتماً سيأتي، محال أن لا يأتي..... مع أخذ الشمس طريقها نحو الأفول اشتدت بالضد حركة الريح لتزيد معها قسوة تلاطم المويجات، جاعلة القصيبات الهيفاوات الطوال الناطرات عند النهر يتراقصن برشاقة ودلال ذات اليمين وذات اليسار على أنغام معزوفة أخاذة متناسقة، موزعة أدواتها بين نقيق الضفادع وبطبطة طيور الماء وطنين البعوض، لكنها رغم ذلك أبت ان تبارح منبتها، متحدية غضب الطبيعة وقسوتها منذ أن جعلت ارتشاف مياه الفرات عنواناً لحياتها، مكونة من ثباتها والتصاقها ببعضها مصّداً للريح وحصناً منيعاً لأعشاش الطيور.... تأملت الفراخ الجائعة الخائفة، وقد سارعت الام لتلفها بجناحيها الحنونين..... ماذا سيحدث لو احتضننا الوطن كحال تلك الصغار؟ هل يكون حلماً، أم أمنية فارغة ملؤها البطر، أم معجزة لا تحدث الا في الأساطير وحكايا العجائز، أن يحتمي الناس بسقف أوطانهم ينعمون بخير عطائها؟ بعد أن كنت قصيدة للحب ومنبعاً أبدياً للحياة، ها قد غدوت في هذا الزمن القبيح عنواناً صارخاً للموت ورمزاً أدهماً للبُغض والحقد.. ماذا جرى ليغدر الدهر بدنياك فينقلب حالك هكذا يا (أوروك) ليصبح الجميع ينفرون منك لاعنين لأيامك؟ تذكرت ما كان يقوله حين تتسلل غيمة الاغتراب لنجوى حديثهما وعتاب قلبيهما.... لتذهب الغربة الى الجحيم، أنها ليست سوى نعش كبير منقوش بالذهب.. تذل الهجير وتغتال عصافير أحلامه.. رغم جمال زخارفها ولمعان الوانها الزاهية تراها تمتص دماء كل طريد هائم مُتعب يبحث له في هذا العالم الفسيح عن بيت دافئ يريح فيه أقدامه المتهالكة..... منذ أن عشقت عيونها دربه عرفت عدم حبه للسفر، كره الغربة دون أن يحيا أيامها وقبل أن تمزق عذاباتها أمنياته..... ليتركها مع دوامة حيرتها بعد عودة تلك الرغبة الكريهة اليه من جديد، وقد أشتد به الغضب أثر اكتوائه بلسعة من نار معاناته.. هذا هو لقائنا الأخير.. لم أعد أحتمل العيش في هذه الارض، لم يعد لنا مفر من الرحيل بعد أن أصبحنا أغراب في (أوروك).. أي وطن هذا الذي غدا الناس فيه مجرد ذئاب تلتهم كل ما تصل اليه أنيابها.. ما هذه البلاد الذي نعيش كل يوم هواجس مأساتها، حتى نست افواهنا كلمة الأمان وعيوننا بسمات الأطفال، لنصبح عبيداً مسجونين بين أسوار خوفها.. هل ظل شيء من هذه الارض بعد أن فاضت فيها الدماء لتطغي حتى على مياه الفرات.. ماذا تبقى منها وقد تحول الاحرار الى رقيقٍ لأكاذيب الكهنة وريائهم، مأسورين بقيد خرافاتهم، مرتهنين لخزعبلاتهم ودجلهم وفتاويهم التي لم تجلب للناس سوى الهموم والكراهية..... الوقت يمر.. لقد تأخر كثيراً عن الموعد.. الدقائق تمضي متسارعات.. قلق بدأ ينتابها.. حيرة تملكت أوصالها.. رمت بصرها الى جريان الماء الذي لا يتوقف كحال الزمن، مصغية لخريره الساحر، سارحة بخيالها، محاولة شغل تفكيرها بشيء آخر يبعد عنها مخاوف الظنون..... من أين جئت أيها النهر، من هو وطنك.. ألا تشعر بشيء من الحنين اليه؟ هل ظلمت انت الآخر في أرض ميلادك، لترحل عنها مانحاً خيرك لأغراب لا تعرفهم بعد يأسك من أرواء تربة جحود لم تتمسك بك فجعلتك تفّر من بين سواقيها؟ تنبهت من سرحانها.. سمعت خلفها حركة خفيفة معلنة قدوم أحد ما.. ابتسمت وأغمضت عينيها التي يملأهما الشوق، لتبدد من مخيلتها تلك الاوهام والافكار.... لقد أتى، لم يطاوعه قلبه على ترك (أوروك)، كانت أحاديثه تلك مجرد زفرة الم وثورة غضب وحقد على واقع مُر ليس ألا... لقد جاء اليها أخيراً ليكتبا معاً ملحمة حبهما الجميل.. اقتربت الحركة منها أكثر، لتتسع معها ابتسامتها شيئاً فشيئاً، مواصلة أقفال عينيها التي تحب دوماً ان تفتحهما للقياه.. لمسها صاحب الحركة مع صوت خافت حزين أشبه بالأنين.. التفتت اليه فاتحة بهدوء جفنيها.... لم يكن سوى جرو صغير يبحث هنا وهناك عما يمكن ان يملئ به جوفه.. انتظرها قليلاً هازاً لها ذيله عسى أن تتصدق بشيء عليه.. بعد يأسه من كرمها غادرها باحثاً عن مبتغاه في مكان آخر... تتبعت غيابه بين الاحراش... تنهدت بصوت مسموع بعد موت ابتسامتها، ثم التفتت الى ما تبقى من الشمس وهي ترسل آخر خيوط أشعتها قبل أن يُكمل ابتلاعها الافق، معلنة للعالم لحظة الفراق، راسمة ببقايا الوانها لوحة حزينة عنوانها الرحيل.
*********************************
*(أوروك)..... أو (الوركاء) كما عُرفت بتسميتها.... واحدة من أهم وأعرق الحواضر السومرية.. تقع على بعد 30كم شرق مدينة السماوة العراقية... بدأ الاستيطان فيها بحدود 4000 ق.م.. ورغم أنها لم تكن أقدم المستوطنات السومرية في جنوب وادي الرافدين، ألا أنها تعتبر أول مدينة برزت فيها الحياة المدنية بعد أن حدثت فيها ما يعرف ب(ثورة الاستيطان المدني)، وذلك بعد ظهور العديد من الابتكارات الحضارية فيها، مثل.. الأختام الأسطوانية، دولاب الفخار، العجلة.. ثم أكتمت فيها العناصر الأساسية لمقومات الحضارة، حين ابتكرت داخل معابدها أقدم وسيلة لكتابة في التاريخ، وذلك بحدود 3200 ق.م والتي سميت ب(الكتابة المسمارية).... وكانت المدينة مركزاً لعبادة أثنين من أهم آلهة وادي الرافدين، هما (آنو) إله السماء، و(أينانا/عشتار) إلهة الحب والحرب... كما اشتهرت المدينة أيضا بملكها (كًلكًامش) صاحب الملحمة الخالدة التي عرفت باسمه.. وقد أستمر الاستيطان في هذه المدينة حتى القرن الثاني ق.م.
471 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع