إبراهيم الزبيدي
لو كان العراق دولة، وذات سيادة، وتحكمها القوانين والمؤسسات، لكانت المسرحية التي شهدها البرلمان في الأسبوع الماضي كارثة تُطيح برؤوس مهمة عديدة، وتُسقط الحكومة، وتحل البرلمان، وربما تَستدعي إعلان حالة الطواريء، وإجراء انتخابات مبكرة، ثم يبدأ الحساب والعقاب لكل من يُثبت القضاء العادل المستقل أنه اختلس أو ارتشى. ولكنه ليس دولة من أي نوع، ومن أي لون وأية رائحة، بل مزرعة لجيوش من الفاسدين والمختلسين والمرتشين أرباب السوابق، منذ 2003 وإلى اليوم، سنة وشيعة، كوردا وعربا، مسلمين ومسيحيين.
وهذه القناعة ليست قائمة على أساس التخمين، بل على أكداس الوثائق والملفات التي أكلتها الأتربة في مكاتب هيئة النزاهة، وفي البرلمان، ولدى القضاء، وعلى المئات من حكايات الفساد والاختلاسات والعمولات التي لا تملُّ من إطلاقها، من يوم الولادة وحتى اليوم، شخصياتٌ سياسية ودينية وشعبية عبر الصحف والفضائيات والإذاعات، مدعَّمة بصور المراسلات والبيانات والحقائق المؤكدة.
لكن لم يُصدر حيدر العبادي أو الذي كان قبلـَه، والذي كان قبلَ قبلِه، قرارا عاجلا، وبهذه السرعة الصاروخية، يمنع بموجبه سفر كل من ورد اسمه في تصريحات وزير الدفاع.
رغم أن أحدا منا، نحن المشاهدين، لم يسمع من الوزير العبيدي سوى (قال لي) و(قلت له) و(طلب مني) و(عرض علي)، دون أن يَكحَل عيون المشاهدين، ويفقأ عيون خصومه المتهمين بأية وثيقة، أو أي تسجيل صوتي، أو أية شهادةِ شاهدٍ كائنا من كان.
ولكن أجهزة الإعلام الحكومية والشعبية، العراقية والعربية والدولية، ومواقع التواصل الاجتماعي، امتلأت بصُوره، واقفا وقاعدا، عسكريا ومدنيا، عابسا ومبتسما، وتسارعت حوله الأخبار والتعليقات والتحليلات، حتى صار وكأنه الفارس المنتظر القادم ليملأ العراق عدلا ونزاهة بعد أن مُليء احتلالا وفسادا وعمالة، مع التأكيد على أن سليم الجبوري وجميع أفراد البطانة (الإخوانية) و(القومية) الملتفة حوله ليسوا خارج دائرة الاشتباه، وليسوا بعيدين عن أجواء (شيلني وأشيلك) وسياسة (أسترْ علي أسترْ عليك).
وزياراته لطهران، وتصريحاته فيها عن براءة ولاية الفقيه من دم العراقيين، وعن جهودها الأخوية الإسلامية النقية المُبرأة من كل سوء من أجل الدفاع عن أمن العراق وشعبه، وحماية سيادته ووحدته، لم تجنبه قرارها القاضي بالاستغناء عن خدماته، بل وحرقه، ورميه أسفل سافلين.
فإيران التي تحكم العراق، مباشرة أو بالواسطة، تحتكر كراسي الحكم، من أعلاها إلى أدناها، ومن أكبرها إلى أصغرها، ولا يستطيع عاقل وعادل ونزيه أن ينكر ذلك. وعليه فهي، من أجل تحلية احتلالها، وتسهيل بلعه على العراقيين، تحتاج إلى ممثلين كومبارس من السنة، ولكنها تشترط ألا يكون بينهم أي رجل حقيقي، وطني، شجاع، شهم، ونزيه، بل إن أفضلهم لديها وأقربَهم إليها هو أكثرهمُ انتهازية، وأقلهم ذمة.
والذين كانوا يُسمَون بالأمس سنة نوري المالكي، ويسمَون اليوم سنة حيدر العبادي، هم بالنتيجة سنة الولي الفقيه.
فليس بينهم واحد أجلسه دينه أو طائفته أو مدينته على كرسيه في المنطقة الخضراء. وليس بينهم واحد حصل على أصوات ناخبيه بالعمل الصالح، والقول الصادق، والسيرة العطرة والسمعة الطيبة. فبدون كرم إيران ورضا (أولادها) العراقيين ما كان (أثخنُهم) يحلم بأن يسير بجانب حائط مباني البرلمان والقصر الجمهوري ورئاسة الوزراء، حتى لو كانت وراءه جيوش الإسكندر، وأموال قارون، ناهيك عن دخولها.
فلماذا الآن؟. لماذا لم تلتهب حناجر (المالكيين) و(العباديين) و(العامريين) و(الصدريين) و(الحكيميين) و(الجعفريين) و(الفضيليين) و(المدحتيين المحموديين) على آلاف ملفات جرائم الاختلاس السابقة؟، ولماذا لم يأمر أحد منهم جميعا بمنع سفر من ورد اسمه في فضائح وزارة أياد علاوي، ووزارة إبراهيم الجعفري، ونوري المالكي، وحيدر العبادي؟
إذن فالفاسد الشرعي الوحيد هو سليم الجبوري، وكل من حوله من زعماء كتل، ورؤساء أحزاب، وقادة مليشيات، ووزراء وسفراء ومدراء وتجار ومصرفيين ووسطاء وسماسرة أتقياء وَرِعون يترفعون عن العيب، ويرفضون خيانة الأمانة، مخافة الله ورسوله والمؤمنين.
-لماذا طويت فضيحة نوري البدران صهر أياد علوي ووزير داخليته يوم هَرب طائرة مليئة بالدنانير العراقية الجديدة إلى بيروت؟
-وماذا استجد في موضوع أيهم السامرائي والملايين التي يستمتع بفوائدها وعوائدها في نيويورك من سنين؟
-وماذا عن مليار وزير الدفاع الأسبق حازم الشعلان؟، وعن ملايين وزير النقل الأسبق لؤي العرس؟، وعن جريمة مصرف الزوية، ووزير التجارة الأسبق فلاح السوداني؟
-وماذا عن صفقة السلاح الروسي وسعدون الدليمي وأحمد نوري المالكي؟
- وماذا عن تحويلات أحمد نوري المالكي ومشترياته في دبي ولندن وطهران والسيدة زينب؟
-وماذا عن فضيحة جهاز كشف المتفجرات؟
-وأين وصلت التحقيقات في قضية انسحاب الجيش من الموصل، والمتهين فيها بتسهيل احتلالها من قبل داعش؟
-وأين ملفات جريمة سبايكر؟
-أين وصل التحقيق بجرائم الحشد الشعبي في ديالى والصلاح الدين والأنبار، وأخيرا في الفلوجة، وغيرها؟
-وماذا تم بشأن ملفات أحمد الجلبي عن جرائم تهريب العملة من قبل البنوك الأهلية وتواطؤ البنك المركزي في ذلك؟
-وماذا عن اتهام الشهرستاني بالفساد؟
-وكيف ألغى قضاء مدحت المحمود الأحكام التي أصدرها بحق مشعان الجبوري المدان بجرائم الاختلاس والفساد؟
-ولماذا لم يُمنع بهاء الأعرجي من السفر؟ والقائمة تطول، والمخفي أعظم.
لكن الأكثر إيلاما هو أن العراقيين سقطوا في الفخ، واكتفوا بإشغال أنفسهم كثيرا بهذه الموقعة، وانقسموا بين مصدق ومكذب، وبين مطالب برجم الجبوري وأركان رئاسته، وبين متحامل على وزير الدفاع ومكذب، وونسوا و تناسوا ملفات الفساد، وكأن العراق دولة يستغرب فيها مواطنوها أن يُكشف فيها عن فساد، أو إساءة استخدام وظيفة، وتوقف المحتجون، وتفرق المتظاهرون، وسكتت المرجعية، وذهب حماسهم جميعا للإصلاح، ولحكومة التكنوقراط، ومطالباتهم بالاقتصاص من الفاسدين.
إذن فالفساد، هو فقط ما تحدث عنه خالد العبيدي، وأن الفاسدين ليسوا شيعة فقط بل سنة أيضا، وأنهم الأخطر والأكثر إساءة لسمعة دولة العراق وأهلها الميامين. إن ما حدث في البرلمان ليس سوى قطرة في بحر من الخراب يا شعب العراق العظيم.
3190 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع