إنهم لا يقرأون التاريخ

                                                    

                             إبراهيم الزبيدي

إن من يكتب التاريخ يريد أن يُقدم للأجيال اللاحقة دروسا من إخفاقات التي سبقتها، ومن نجاحاتها. والذي يقرأ التاريخ يريد أن يتعلم ممن كان قبله. ولكن الذين لا يقرأون ولا يتعلمون ممن كان قبلهم يعيشون أسرى خيالاتهم وأحلامهم وحدها، كمن يسير في ظلام بلا دليل.

والنظام الإيراني لا يريد أن يتعلم مما مر بالعراق، ومما فعله العراقيون بمن غزاه قبله. وهو، كما يبدو، ظاهرا، لا يفهم أن إصراره على زيادة جرعة الإهانات التي يُطلقها، يوما بعد يوم، على الشعب العراقي وكلاؤه المحليون يضاعف أحقاد المزيد من العراقيين وغضبَهم ونقمتهم عليه، قبل عبيده ومواليه، وأكثر، لكونه المالكَ والراعيَ والحامي لمن اختارهم لتمثيله وقيادة حملاته الإذلالية تلك، أولا، ولأنه ثانيا لم يخترْهم من أشراف العراقيين وأخيارهم، بل من أكثرهم قبحا، ودمامة، وبعدا عن الاستقامة والأمانة والوطنية والذكر الحسن.
فهم معروفون، مكشوفون، مكروهون، ليس فقط من العراقيين الذين لا يعرفون تواريخهم وسلوكهم وأخلاقهم قبل أن يصبحوا وزراء وقادةً وزعماء وأثرياء، بل من أقرب أقاربهم ومعارفهم الذين عايشوهم وخبروهم أيام التسكع والتشرد والصعلكة السابقة.
وحين يخرج واحدٌ كهادي العامري الذي جاهر أكثر من مرة بأن ولاءه لإيران لا للعراق، فيباهي بأن منظمته (بدر) أصبحت أقوى من الجيش العراقي والشرطة فإنه يعلن بذلك وفاة الدولة العراقية وشعبها وجيشها، ويقرأ عليها السلام، ويخير العراقيين الوطنيين غير المغضوب عليهم ولا الضالين إما بالرحيل أو بحمل السلاح، كما حملوه، من قبل، واقتلعوا به من أرضهم كل نبات خبيث وفاسد كالنبات العقيم الذي يزرعه الإيرانيون هذه الأيام.
والذين عايشوا أيام المقاومة الشعبية التي شكلها الحزب الشيوعي العراقي واليساريون في العام 1959، وقواتِ الحرس القومي الذي شكلها البعثيون في العام 1963، يعرف كيف أصاب قياداتهما وأفرادهما غرورُ القوة، مثلما أصاب اليوم هادي العامري وأمثاله، وكيف تعالوْا على الدولة وتجاسروا على جيشها وأمنها، وكيف استباحوا الوزارات والمؤسسات كافة، حتى حلت الفوضى مكان النظام، والظلم مكان العدل، والخوف مكان الأمان، وكم اغتالوا، واختطفوا، وعذبوا، وهجَّروا، ونهبوا، واغتصبوا، ثم حلت عليهم الواقعة، فصار أشجعهم يتراكض إلى مراكز الشرطة والجيش ليرمي لباس المنظمة وسلاحها، ويتبرأ من أفعالها، ويشتم قادتها، ثم انتهى كل شيء بأيام.
ومثلما كبرت منظمة بدر ومليشات الحشد الشعبي، بسرعة فائقة، ودخل في دينها المئات والآلاف من المتطوعين، فقد حدث الشيء نفسُه مع سابقاتها.
فقيادة الحزب الشيوعي، أنذاك، أصابها وهْمُ الكثرة الكاثرة فظنت أن الكم أنفع من النوع، ثم فتحت أبوابها لكل طارق جديد. قليلون ممن تطوعوا لحمل سلاحها وحبالها وراياتها كانوا عقائديين مؤمنين بعدالة مبادئها وأهدافها. وكثيرون جاؤوها بحثا عن مصدر ارتزاق، خصوصا من العاطلين عن العمل، أو خوفا ونفاقا وتقية، وآخرون دستهم السفارات والمخابرات العربية والأجنبية الناقمة.
أما الكثرة الكاثرة منهم فكانت من الانتهازيين الذين وُجدوا في كل زمان ومكان ممن أغرتهم فُرص الاستفادة مما تمنحه لهم ملابسُ الجماعة الغالبة وسلاحها من هيبة تعجل لهم بالسلطة والجنس والمال، وتعوضهم عما كانوا فيه من هوان ونبذٍ من المجتمع. وكان هؤلاء أشدَّ المزايدين في حبها، والمبالغين في تخوين خصومها وإيذائهم.
وقد سجلت المحاكم العراقية أن أكثر المسارعين إلى إعلان البراءة منها، وإلى شتم قادتها، والسخرية من فكرها وشعاراتها كانوا هم أعنفَ أعضائها، وأكثرَهم تطرفا وعدوانا وظلما ودموية.
والشيء نفسه حدث للحرس القومي الذي أنشأه حزب البعث. ويذكر العراقيون الذين عايشوا تلك الأيام كم كان التعدي والاستغلال والابتزاز الذي مارسه أعضاؤه المسلحون، ومنهم كثيرون فتيةٌ يافعون وأحداث.  وكان ذلك ما ألـَّب عليه جميع خصومه الناقمين، بعثيين وقوميين وشيوعيين ويساريين ومتدينين، وضباط جيش وشرطة وجنود، ورجال دين وعشائر، وجواسيس سفارات عربية وأجنبية ليس لهم عدد. وهكذا أصبحت قوته ضعفَه، وحياته موتَه، بما فعل السفهاء من أعضائه الغافلين.
وهنا ينبغي الانتباه لمسألة حساسة ودقيقة، وهي النسبة والتناسب بين أعداد أفراد الكيانات السياسية المسلحة، (المقاومة الشعبية، والحرس القومي، ومليشيات الحشد الشعبي) وبين خصومها والناقمين عليها من فصائل الشعب العراقي وشرائحه ومناطقه المتنوعة المتعددة.
ولو دققنا اليوم في نسبة أعضاء الأحزاب والمليشيات التي أنشأها الإيرانيون، مجتمعة، في العراق إلى ملايين أبناء الطائفة ذاتها التي لم تستطع ماكنة التضليل الطائفي الإيرانية خداعهم وترويضهم لوجدنا أنها، جميعَها، نقطة في بحر مائج كبير.
وليس بُغض الطائفة والملايين العراقية الأخرى لجماعة هادي العامري وعمار الحكيم وابراهيم الجعفري ونوري المالكي والخزعلي والبطاط، ونقمتُها عليهم أجمعين، لأنهم غدروا بأهلهم، وقبلوا أن ينصروا عليهم قوما آخرين، فقط، بل لما أنزلوه ويُنزلونه بحياتهم وحياة أسرهم، وأمنهم وكراماتهم وثرواتهم، من 2003 وإلى اليوم، من مآتم وفواجع وخوف وذلة وجوع وخراب. بالمختصر، إنهم جعلوا الوطن سجنا خانقا، والحياة جحيما، باسم الطائفة، وباسم الدين.
فهل يقرأ الملالي في طهران تاريخ العراق، ويفهون ما يعني الهتاف: (إيران برا برا، بغداد حرة حرة) قبل فوات الأوان؟

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2185 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع