إبراهيم الزبيدي
لقد اعتاد العراقيون على إلقاء مسؤولية خراب حياتهم ووطنهم على غرام بعضٍ من أصحاب القرار العراقيين بإيران، وبعضٍ آخر بالمال الخليجي، وثالث بـ (جندرمة) تركيا، ويعتبرون عمالة هؤلاء خيانة لهم، وتعدياً على حياتهم وكرامة وطنهم وسيادته، وخرقا للأصول والأعراف والمواثيق، وسوءَ خلق، وقلة وفاء، ثم يحاولون أن يستنهضوا فيهم الغيرة الوطنية والنخوة والشهامة ليكفوا عن العمالة، ويتقوا الله في أمن أهلهم، وكرامة أوطانهم، ومستقبل أجيالهم القادمة.
ويجرنا السجال الحامي الدائر اليوم بين شيعة السلطة، من جهة، وبين السلطان أردوغان وسنته العراقيين، من جهة أخرى، حول القاعدة العسكرية في بعشيقة إلى الحزن الشديد على ما آل إليه حال الوطن اليوم من مهانة، حين أصبح بلا حرمة، ولا سيادة، ولا هيبة، ولا أمان، أرضا مشاعة لا حرس لها ولا حدود، يصول فيها من هب ودب ويجول، إيرانيين وأتراكا وأمريكيين وبريطانيين وفرنسيين وإسرائيليين وألمانا وهنودا وباكستانيين، وحتى جيبوتيين وصوماليين و(واق واقيين).
ويغضب نوري المالكي، كغضبة المعتصم للمرأة التي صاحت (وامعتصماه) ، فيدعو إلى استقدام عصابات حزب العمال الكردي التركي إلى العراق، وتسليحها، نكاية بأردوغان. وهكذا تكون الكياسة والسياسة، وهكذا تكون أصول القيادة وحسن السلوك.
ثم يهدد حيدر العبادي بالقوة المسلحة لإخراج الترك من بعشيقة (العزيزة جدا) على قلبه، ويعلن أنه سيمنع الأردوغانيين من المشاركة في تحرير الموصل، ولو حاولوا سيمنعهم بقوة السلاح، لأن السيادة مقدسة وسيقطع اليد التي تمسها بسوء.
ثم يعلن قيس الخزعلي قائد عصائب الحق أن تحرير الموصل " تمهيدٌ لدولة العدل الإلهي"، وأنه "انتقام وثأر من قتلة الحسين، لأن هؤلاء الأحفاد من أولئك الأجداد".
والحقيقة أن بعضنا كان يظن أن المسألة ليست أكثر من جدل إعلامي ممل بين (عشاق) إيران و(أحبة) أردوغان من العراقيين، وأنها زوبعة في فنجان ستنتهي كم انتهى غيرها بتبويس اللحى، وعفا الله عما سلف، وما من محبة إلا بعد عداوة.
أما البعض الآخر منا، ممن عايش أيام الحروب المدمرة السابقة التي أشعلها الكلام في الإعلام، فقد أدرك خطورتها لو أفلت العيار، وتعدى حدودَ الكلام إلى حوار المدافع والصواريخ، فراح يناشد هؤلاء وأؤلئك التروي، وعدمَ التصعيد والتهديد والوعيد، والعودة إلى العقلانية، خوفا من حرب قد تجرنا إليها هذا العنجهيات التي لا تدرك أن أي اشتباك عسكري بين الحشد الشعبي، بشكل خاص، وبين الجيش التركي لابد أن يجر إلى حربٍ إيران وتركيا على أرض العراق، لا دولةُ حزب الدعوة، ولا إيران، ولا تركيا، تستيطع أن تتكهن بأمَدها، ولا أن تقدر تبعاتها، ولا عددَ الأيدي الخبيثة التي سوف تصفق لها وتصب ما استطاعت من زيت على نارها. خصوصا وأننا قد عرفنا مثلها من قبل، في حرب الثماني سنوات التي لا يتمنى أحد أن تعود، لا هي ولا أيامُها العصيبة الماضية السود.
أردوغان يبرر وجوده العسكري في نينوى، وإصراراه على المشاركة في تحرير الموصل برغبته في منع ما قد يحدث فيها من تغيير ديمغرافي، يكون ضحاياه (تركمانُه) العراقيون، كما حدث في غيرها من قبل، وبعزمه على حماية أحفاد يزيد من من انتقام أحفاد الحسين.
يقابل ذلك إصرار مستميت من (جماعة) إيران على عدم إشراك الجيش التركي في حرب تحرير الموصل، لأنها حربهم وحدهم، ولأنهم وحدهم أصحابُ الحق في التصرف بها، بعد تحريرها من داعش، وبأهلها دون حسيب ولا رقيب.
ثم نكتشف، في النهاية، أن المسألة ليست لغوا سياسيا عابرا بين حيدر العبادي وأردوغان، (مَن مِن مستوى مَن، ومَن يعرف حجم مَن) ، بل هي أبعد بكثير، وأخطر بكثير، وأغبى بكثير.
فقد خرج علينا شخص شجاع وجريء، لا يستحي ولا يخاف، ليكشف الغطاء عن الحقيقة، دون لف ودوران، ودون الحاجة إلى تلميح بدل تصريح، سواءٌ لديه من قبل ومن لم يقبل، من غضب ومن لم يغضب، هو السيد حامد الجزائري قائد ميليشيات الحشد الشعبي معلنا في لقاء مع وكالة (ميزان) الإيرانية الرسمية أن " الحشد الشعبي، ورئيس وزراء العراق حيدر العبادي، والعراق بأكمله، يتحرك تحت إمرة الجنرال قاسم سليماني وقيادته".
ويضيف قائلا بوضوح: إن "الحشد الشعبي ترعرع وتربى في أحضان إيران، وإن أغلب قياداته هم من العراقيين الذين شاركوا في الحرب بجانب الحرس الثوري الإيراني ضد صدام حسين".و "نحن نعتبر تضحياتنا دفاعا عن إيران، ودماءُ العراقيين التي سالت وسُفكت خلال تلك الحرب لم تخرج عن دائرة الدفاع عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية."
ويختم بالقول : " نحن في الحشد الشعبي، نعتقد بأننا ننتمي إلى أمة واحدة هي أمة ولاية الفقيه"، و" نحن، كحشد شعبي، مخلصون للجنرال قاسم سليماني، لأن لا يوجد أي شخص يمتلك جرأته وثباته وشجاعته ومعنوياته، ولهذا سلم حيدر العبادي جميع الملفات العسكرية والأمنية وقيادة العمليات العسكرية بيد الجنرال قاسم سليماني، وباتت مكانة سليماني توازي مكانة العبادي في الحكم في العراق".
إذن فهي ليست عمالة، ولا خيانة. إنها عقيدة ثابتة، وإيمان راسخ بأن العراق، أرضا وشعبا وتاريخا ومستقبلا، بشيعته وسنته، بعربه وكرده، مسلميه ومسيحييه، أرضٌ إيرانية خالصة لا يحق لأحد أن ينازع أصحابَها فيها، أيا كان، وأن أردوغان معتدٍ على أملاك الدولة الفارسية وحدودها. فإما أن يخرج من بعشيقة بهدوء وسلام، أو أن تعود حروب التواريخ القديمة بين بني فارس وبني عثمان، فينتصر هؤلاء، ويندحر أؤلئك، وجميعُهم في النار.
الآن فقط أصبح اللعب على المكشوف.
4885 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع