إبراهيم الزبيدي
ألم تثر دهشتَكم عاصفةُ التصفيق الحاد التي (شنها) سفراءُ الدول الكبرى والصغرى ، العربية والأجنبية، الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، ومساعدوهم ، وموظفو الإدارة والأمن والترجمة المعينون على ملاك موظفي الأمم المتحدة، وحتى السُعاةُ والفراشون، فور إعلان نتيجة التصويت على قرار المطالبة بـ (تجميد الاستيطان الإسرائيلية)؟. فلهذا التصفيق الحاد أكثر من معنى، وأكثر من دلالة.
الأولى أن المجتمع الدولي كمن اُطلِق سراحُه بعد سنين طويلة وثقيلة كان فيها مُعتقلا في سجون خمس دول فقط مَنحت نفسها حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار لا يعجبها، أو لا يوفر لها منفعة، أو لمشاكسة (دولة زميلة) تحمل نفس هذا الحق حين تحاول أن تتكسب من قرارٍ مقترَح، من وراء ظهرها.
والثانية أن العالم كله، بملياراته العددية، واختلاف هوياته وأديانه وقومياته وثقافاته، لاقيمة له أمام يَدِ واحدٍ من مندوبي الدول الكبرى الخمس حين يرفعها ليُسقط قرارا تعب على صياغته وتجهيزه خبراءُ وعلماءُ وكتَبَةُ ومحررون ومدققون قانونيون، وجرت حوله وراء الكواليس مجادلات ومبادلات وصفقات، وتأمَّل فيه مظلومٌ خيرا، وبعضا من إنصاف، ونصفَ عدالة.
والثالثة أن أكثر ثلاث دول من الخمس استخداما لهذا الحق (الباطل) هي أمريكا وروسيا والصين.
الأولى تستخدمه دائما لحماية أمن إسرائيل، وفق تفسير إسرائيل ذاتها لما ينفع أمنها وما يضره. وفيما عدا حماية إسرائيل من غضب البشرية المتحرقة شوقا لوقوف مجلس الأمن الدولي ضد عنادها وعنجهيتها وكبرياءها، لم تلجأ أمريكا لاستخدام النقض إلا قليلا قياسا بغيرها.
أما روسيا فهي المدمنة الأولى، من أيام الاتحاد السوفيتي المرحوم، ومعها بالتبعية جمهورية الصين الشعبية، على استخدام النقض، بالرايحة والجاية، بلا خوف ولا حياء. ولم تكن، دائما وأبدا، ترفع يدها بالنقض إلا لحماية ديكتاتور استخدم ضد شعبه أسلحة محرمة دوليا، أو آخر مارس التطهير العرقي أو الديني أو القومي، أو ثالث غزا دولة مجاورة، أو رابع صَنَّع أسلحة دمار شامل وهدد باستخدامها، أو خامس داس بكلتا قدميه على جميع مباديء الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان، أو سادس هدم مدنا وقرىً كاملة آمنة على رؤوس أهلها وهّجر الملايين.
إن سفراء الدول الثلاث، هذه، في طول تاريخ سلوكهم في مجلس الأمن الدولي، متعجرفون متكبرون، وقحون، ومزورون يرون الأسود أبيض، حسب المصلحة والمزاج، أو في حالات التفاهم أو التخاصم بين (الزملاء) الخمسة الكبار. وكل ما عدا ذلك، من بشر ودول وحكومات ومنظمات ومؤسسات إنسانية وخيرية، مدنية أو دينية، ليذهبْ إلى جحيم.
فمثلا، على امتداد ثماني سنوات من رئاسة أوباما (الكلامنجي) ذي اللحمة الباردة الكسولة، ظلت إسرائيل تبني، وبأموال أمريكا نفسها، عشرات الآلاف من الوحدات السكنية في القدس والضفة الغربية، ولم يَسمح مندوبه لدى الأمم المتحدة بإصدار قرار، حتى لو كان خجولا رقيقا مهذبا، يعترض على سياسة الاستيطان، ولو من باب رفع العتب.
وفي كل مرة كان كان مجلس الأمن الدولي، في أية مسألة تخص إسرائيل، يحاول أن يقول كلمة الحق، كان يخاف، ويستحي، ويتراجع خوفا من غضب باراك أوباما العنيد الشديد المعارض لأي تطفل من مجلس الأمن الدولي في هذه المسألة، بالذات. إلى أن داس نتياهو على ذَنَبه حين دعَم شاتِمَه وشاتِمَ صديقتِه ووريثته هيلاري كلنتون، وتسبب في انهيار هيكل الحزب الديمقراطي على رأس الرئيس أولا، وعلى رأس وريثته، ثانيا، وعلى رؤوس نواب الحزب الديمقراطي وشيوخه كلهم، ليُجيَّر البيت الأبيض والكونغرس، لفةً واحدة، لترامب وللحزب الجمهوري، من الآن ولأربع أو ثماني سنوات مقبلة، في أقل تقدير.
إذن فسماح أوباما بتمرير القرار الأخير لم يكن نزاهة، ولا إقرارا بحق، ولا كرها لظلم وعدوان، بل كان رصاصة انتقام أخيرة يطلقها على نتياهو، وهو خارج من البيت الأبيض جريحا وحزينا وبلا معين ونصير.
وعليه فقد كان عدم استخدام سفيره حق النقض هذه المرة حدثا مثيرا للغاية استحق من جميع سكان قبة مجلس الأمن الدولي، ساعةَ الإعلان عن نتيجة التصويت، أن ينطلقوا بذلك التصفيق الحاد. ولو كان منهم من يجيد الزغردة لأطلق لزغاريده العنان.
لقد علمتنا الأيام أن كل رئيس أمريكي، من أول ترشحه للرئاسة، وبعد فوزه بها، وطيلة جلوسه في الغرفة البيضاوية، وتنقله بالطائرة الرئاسية، وقضائه عُطلَه الأسبوعية في كمب ديفيد، يظل يبالغ في تدليل إسرائيل، والإغداق عليها بالحلال والحرام، ويبقى سيفا مُسلتاً على رؤوس مندوبي دول العالم كلها، من أجل حمايتها من كل سوء.
ثم علمتنا الأيام، أيضا، أن أي رئيس أمريكي، بعد رحيله من البيت الأبيض، خصوصا في نهاية فترة رئاسته الثانية، يبدأ بكتابة المذكرات، ويمتهن إلقاء المحاضرات، والظهور على الفضائيات، كاشفا أسرارا عن كره، أو عدم ارتياح، أو معارضة لسياسات إسرائيل، ويستعرض الضغوط التي لم يستطع مقاومتها من جهات متنفذة عديدة بيدِها المُلكُ، وهي أحكم الحاكمين في أمريكا والعالم، في عصرنا الحديث.
أما الغريب العجيب في هذه الملحمة فهو أن أربع دول غير عربية، هي نيوزيلندا وماليزيا وفنزويلا والسنغال، تبنت المشروع، وأصرت على التصويت عليه (بشجاعة)، وأن مصر (أم الدنيا العربية) تقد ائتمرت بأمر نتياهو، وطلبت (بغير شجاعة) تأجيل التصويت عليه.
أما إسرائيل فقد حكمت على أوباما بالخيانة، ووصفت القرار بأنه "مشين". وقال نتياهو إنه أصدر تعليماته لوزير خارجيته بمراجعة العلاقة مع الأمم المتحدة، وأمره بالتوقف عن دفع حصة إسرائيل في ميزانيات المنظمات والمؤسسات التابعة لها. كما قرر معاقبة الدول الأربع صاحبة المشروع. وأكد رفضه وعدم الالتزام به. يعني أنه حبرٌ على ورق، كأنْ لم يكن، ولن يكون.
ومن جهته وعد الرئيس المنتخب ترامب بأن "الأمور ستتغير" في الأمم المتحدة بعد 20 يناير/ كانون الثاني. وفسر نواب وشيوخ جمهوريون هذا التهديد بأن معركة تمويل الولايات المتحدة للأمم المتحدة ستبدأ فور تسلمه الرئاسة. هذا لأنه جديد على الساحة. ولكن ليس بمستبعد، بعد أربع أو ثماني سنوات، أن نرى ترامب، نفسَه، يفعل ما فعله سلفه أوباما، فيطلق رصاصة غضبٍ ودَاعيةً على عنجهية إسرائيل التي لا تُحتمل. أليس هذا ما عودنا رؤساءُ الولايات المتحدة عليه؟.
3837 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع