نزار سركيس هنّوده*
توفيت الأم وتركتها وحيدة مع خمسة أخوة وعمرها لا يتعدى الشهرين . أما الأب فكان لايزال شابا ، الاّ انه أبى أن يتزوج .. كان يرددها جملته على أقربائه وأصدقائه من أهل القرية ، سأعمل وأكافح من أجل أطفالي وتربيتهم .
وفعلا كبروا الأطفال ، وأصبحوا رجال وتزوجوا الاّ أخاها الأصغر حيث شاءت الظروف أن يأخذه عمه ليعيش معهم في القضاء . ودخل المدرسة هناك وتفوق على أقرانه ، عندها تبنّته الكنيسة فأرسلته للمحافظة ودخل الدير . وكان متفوقا هناك أيضا على جميع زملائه . وما هي الاّ سنوات حتى أنهى دراسته وأصبح كاهنا .أما الأخوة فبعد وفاة والدهم نزحوا الى المدينة كل وراء رزقه . كانوا يتزاورون مع أخيهم القس الاّ أختهم التي بقت مع زوجها تعيش في القرية بعيدة عنهم جميعا .
مرّت سنوات .. وسنوات ، وذات يوم زار أخوها القس القرية ففرحت به فرحا لا يوصف ، لكنه لم يتمكن من البقاء في القرية لإرتباطاته . لذلك أصر أن يأخذها معه لتبقى معه في المدينة بضعة أسابيع لترتاح قليلا ، بعدما أنهكتها الحياة الصعبة التي عاشتها كل هذه السنين الطويلة. وهناك في تلك المدينة التي كما يسمونها بالقضاء ، رأت الحياة تختلف عن القرية ، فهي أجمل وأحلى وأكثر راحة من حياة القرية القاسية التي تعتمد على الجهد العضلي والجسدي . وعندما جاء يوم الأحد ذهبت للكنيسة لسماع صلاة القداس ، وعند انتهاء القداس أطل أخوها على المصلين ليلقي موعظته . وأخذت تنصت باهتمام بالغ لكل كلمة ينطق بها . كان أخوها خطيبا بارزا ، فهو كما أسلفنا ، كان ذكيا ومتفوقا على زملائه في جميع مراحل الدراسة .
من جملة ما قاله للمصلين ، حثهم على مساعدة بعضهم للبعض ، وأن يعمقوا في نسيج علاقاتهم ويطوروها لما لها من مردود ايجابي كبير للجميع . وأن يلتزموا بشكل كامل بمبادئ المسيحية التي هي ينبوع لا ينضب من المحبة والتسامح والإيمان بالقيم والمبادئ الخلاّقة التي تمكّن الإنسان المؤمن من السير في الطريق المستقيم والصحيح الذي لايحيد أبدا . بحيث يوصلهم في النهاية الى ما يسعى اليه كل انسان .
وأضاف قائلا : أخوتي .. أخواتي .. أحبتي . لقد علمنا يسوع المسيح المحبة . وأوصانا بها ، وعلمنا أن نحب بعضنا البعض . وأن نكون أخوة فيما بيننا . وأن نتمنى السعادة والخير لغيرنا كما نحبها لأنفسنا. وأضاف قائلا:
أن يعطف كبيرنا على صغيرنا ، وأن يرعى صغيرنا كبيرنا . ولا أوصيكم بالجار.. فالجار كما يقولون قبل الدار . فكما تهتمون بأنفسكم وأطفالكم ، أهتموا بعوائل جيرانكم وبأبناء مدينتكم . ورفع صوته عاليا طالبا من المصلّين :
أن يساعدوا المحتاجين ، والفقراء ، والمعدومين ، موضحا لهم : من يملك درهما أن يتقاسمه مع المحتاجين ، ومن يملك مواشي وأغنام عليه أن يفكر بالفقراء والمحتاجين وأن لا يبق بطونهم خاوية وهو الشبعان المتخم . وأضاف قائلا :
أخوتي أخواتي .. لقد أواصانا يسوع بتقاسم رغيف الخبز مع أخونا الجائع . وأوصيكم .. من يملك في بيته كرسي زائدا عن حاجته عليه أن يعطيه لجيرانه المحتاج . ومن له معطفين أن يعطي واحدا لصديقه ليحمي جسده من البرد القارس . وهكذا ..فاستحقاق المساعدة يتضاعف كلما امتلك الانسان أكثر.. وأكثر.
وهو مسترسل بكلماته المؤثرة والجيّاشة هذه .. فاذا بدموع أخته تنهمر على وجنتيها ، طالبة من السيد المسيح أن يغفر لها كل ذنوبها ، التي أساسا ليس لها ذنوب تذكر . فهي معروفة بين أهل قريتها قبل بيتها ، بطيبة قلب .. وطهارة نفس . وحبها للصغير والكبير . وما كان منها الاّ أن خرجت من الكنيسة متجهة الى بيت القس فدخلته وأخذت تلقي النظرات على محتويات المنزل فرأته محشوا بالاثاث والحاجيات المنزلية التي تسد حاجة عدة عوائل في ان واحد.
ومن شباك البيت شاهدت أهل القرية وقد خرجوا من الكنيسة وأخذوا يتقاطرون على منازلهم ، أما أخوها القس فكان قد أخبرها بأنه سيذهب بعد خروجه من الكنيسة لزيارة مريض في المستشفى . فخرجت من البيت ودخلت بيت جيرانها الذي يعمل دلاّلا اضافة لعمله كنجار، وقالت له أذهب وأعلن بأعلى صوتك حتى يسمعك أهل المدينة من الفقراء والمحتاجين أن يأتوا الى بيت أخي القس فسأوزع كل ماهو زائدا عن حاجة القس فأجابها قائلا: هل أمرك القس بهذا .. ردت عليه ..لا.. لكن كيف تقومين بهذا العمل ومن دون علمه . قالت انك تعرف أنا أخته ، وأوصيك أن تعمل ما أقول لك . فأجابها .. سمعا وطاعة .
فذهب الرجل لسوق المدينة معلنا بأعلى صوته . هناك مواد منزلية جديدة ومستعملة بأنواعها فعلى الفقراء والمحتاجين الذهاب الى بيت القس حيث سيتم توزيعها عليهم ..
وما هي الاّ دقائق معدودة حتى وصلوا المكان ، فاستقبلتهم أخت القس بابتسامتها المعهودة ومرحبة بهم ، وأخذت توزع مقتنيات المنزل على أصحاب العوائل من المحتاجين . بالمقابل شكروها شكرا عظيما ، ومبتهلين لله عز وجل أن يحفظ القس ويطيل في عمره .وفي المساء عاد القس الى البيت . فماذا رأى :
البيت شبه خالي . هاهي غرفة الديوان التي كانت عامرة بأثاثها ، فارغة الاّ من منضدة ووراءها الكرسي الذي كان يجلس عليه ، اضافة الى كرسيين على يمين ويسار المنضدة ، أما القنفات اضافة الى باقي الاثاث والمقتنيات على أشكالها فلا وجود لها . ودخل باقي الغرف فحالها حال غرفة الديوان ان لم يكن أسوأ . وخرج قاصدا البستان الواقع خلف البيت .. فلم يرى سوى دجاجتين وخروف واحد ، في حين كان لديه بحدود عشرين دجاجة ، وعدد من الخرفان ..و..و. فما كان الاّ أن صاح بأعلى صوته هناء.. فجاءت أخته الطيبة القلب مسرعة ووقفت أمامه مبتسمة وقائلة ماذا بك يا أخي العزيز .
فأجابها ماذا بي .. ماذا حل بأغراض البيت .. أين ذهبت ؟ فأجابته بذهول .. ألم تناشد اليوم في موعظتك في الكنيسة أبناء رعيتك ، بمساعدة الفقراء والمحتاجين .. ألم تحرضهم على تقاسم مايمتلكونه مع الفقراء المغلوب على امرهم .. أخي العزيز .. انك قلتها . فلم يتمالك نفسه ، وقال لأخته بأعلى صوته :
ياأيتها الملعونة .. نعم أنا قلتها ..لأبناء الرعيّة ، أن يساعدوا الفقراء ويتقاسمون مايملكون معهم .. لكن .. ليس ما أملكه أنا .. أفهمت .. ليس ماأملكه أنا .
اخرجي من البيت حالا .. لاأحب أن أرى وجهك ثانية . فما كان من أخته الطيبة الاّ أجابته أخي :
ظننت انك قد تغيرت طباعك .. لكن مع الأسف لا .. بقيت كما ما عرفتك في الصغر .. فخرجت وذهبت بيت الدلال الذي رحّب بها ، وباتت تلك الليلة عندهم ، وفي الصباح الباكر استقلت سيارة أجرة قاصدة قريتها. ووصلت البيت وهي منهكة وبقيت طريحة الفراش لعدة أيام .
نزار سركيس هنّوده
رئيس تحرير مجلة الرافدين
سدني
الگاردينيا: أهلا بالزميل العزيز / نزار سركيس هنٌودة على نشر أولى كتاباته في حدائقنا... زارتنا البركة زميل نزار..
535 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع