د. علي محمد فخرو*
لسنا معنيين بتفاصيل ما يجري من أحداث يومية، خصوصاً السلبية منها، في الفترة الانتقالية الحالية التي تعيشها ثورات وحراكات الربيع العربي. كما أننا لسنا مهتمين بإعطاء أي انتباه لأولئك الذين لا ينظرون إلى تلك الثورات والحراكات الكبرى إلا كما تنظر الدجاجة المطأطأة الرأس إلى ما تحت قدميها وهي تفتش عن الدودة وفتات الأكل.
أولئك لا يملكون الإرادة ولا القدرة لأن يرفعوا رؤوسهم ويمدوا أبصارهم إلى فضاءات الثورات والتمردات الكبرى العالية حيث لا تسبح وتحلق إلا النسور وجوارح القوة والكبرياء.
دعنا إذن نركز على بعض الظواهر الكبرى التي تجعل من الفترة الانتقالية الحالية فترة مليئة بالأخطار من جهة ومحتوية على عناصر مشابهة للثورات المضادة من جهة أخرى.
* أولاً: يعجب الإنسان من عدم قدرة الأنظمة السياسية الجديدة، ممثلة برؤساء دول أو حكومات أو مجالس، والتي ما كان لها أن تصل إلى تلك المراكز والمؤسسات المفصلية لولا إسقاط الثورات لأنظمة الحكم الاستبدادية الفاسدة السابقة، على أن تدرك أن شرعيتها ليست انتخابية بحصولها على أغلبية الأصوات في هذه المنافسة أو تلك، وإنما تقوم شرعيتها في الفترة الانتقالية على مدى التزامها بأهداف الثورة التي ركبت موجتها وبمدى نسبة النجاح في الاقتراب من تحقيق تلك الأهداف.
وهي بالتالي، خصوصاً إن لم تخرج من رحم من قاموا أصلاً بالثورات والحراكات، لا تستطيع أن تضع لها برامج عمل وأولويات اهتمام لا تتناسق مع ما طرحه مفجرو الثورات في الحدود الدنيا على الأقل. ولذلك كان من واجبها إشراك مختلف قوى الثورة وعلى الأخص من الشباب المضحين المناضلين، بأشكال كثيرة لا حصر لها ولا عد، في مناقشات وقرارات مؤسسات الحكم والتشريع الانتقالية الجديدة. ويخطئ خطأ فادحاً من يعتقد أن الأغلبية المنتخبة يجب أن تتحمل المسؤولية وحدها أثناء فترات الانتقال وأنها لا تخضع للمحاسبة إلا من خلال صناديق الاقتراع.
ذلك، ونقولها للمرة الألف مع الآخرين، بأنه ما كان لأنظمة الحكم الجديدة أن تنتخب لو لم تهيئ لها تضحيات الثورات والحراكات هذا السبيل.
* ثانياً: وفي الآن نفسه لا تكتمل تلك الشرعية إلا بمقدار التزام أنظمة الحكم الجديدة بحد معقول من ممارسة متطلبات الاستقلال الوطني من جهة والتوجه العروبي القومي الوحدوي من جهة أخرى. إن رفع الثورات لشعاري الكرامة الإنسانية والحرية لم يقصد به كرامة وحرية المواطن العربي فقط وإنما قصد به أيضاً، وبقوة، وطن القطر ووطن العرب وشعب القطر وأمة العرب. وفي قلب هذين الشعارين موضوع فلسطين ومحتلها الصهيوني.
ولذا كان على عيون أنظمة حكم الفترة الانتقالية، المؤقتة بصورة مؤكدة، أن لا تبحلق في الخارج بانتظار مباركة هذه العاصمة أو المؤسسة الأجنبية أو تلك، وإنما تركز أنظارها على الداخل لتستشف ما يموج به من وطنية وعروبة ووحدوية. إن غياب هذا الجانب في الشرعية الانتقالية يفسر استمرار خروج مسؤولي عواصم ومؤسسات الغرب اليومي لينتقدوا أو يباركوا أو يرفضوا أو يحذروا. وهو أيضاً يفسر هوان الجامعة العربية على نفسها وعلى أمتها وهي تلعب دور التابع الذليل، إذ إن النسور الجديدة تستمر في اللعب في ساحة الجامعة كبقية الفراخ.
ثالثاً: لا يستطيع الإنسان المنصف أن يغفل الأدوار السلبية ونتائجها المعرقلة لنجاح الثورات والحراكات التي لعبتها بعض الدول العربية. وسواء تم ذلك عن قصد أو كان نتيجة بلادة فهم سياسي لمشهد ربيع الوطن العربي أو استجابة لضغوط دولية إمبريالية فان بعض ما حدث لا يمكن إلا أن يوضع في خانة الثورات المضادة الخارجية التي أنهكت فترات الانتقال وأطالت أمدها، وكذلك في خانة التدمير الأحمق لبعض الأقطار العربية باسم مساعدة شعوب تلك الأقطار.
* رابعاً: إذا كان شباب العرب قد فجروا ثورات وحراكات أبهرت أمتهم والعالم فانهم قد أخمدوا الكثير من وهج ما حققوه إبان الفترة الانتقالية. وهم مطالبون بأن يبدأوا مسيرة المراجعة والنقد الذاتي في الحال للانتقال إلى مرحلة التجاوز والعودة إلى متطلبات فترات الانتقال بعد الثورات. ولا حاجة لذكر التفاصيل فهم يملكون الفهم والإرادة للتشخيص وللعلاج، لكننا نتوجه إليهم بهذا الطلب باسم تضحياتهم وآلامهم التي بذلها ولا يزال يبذلها الملايين منهم.
كل ثورات العالم الكبرى ذرفت دموع الآلام والخوف والرجاء إبان فترات الانتقال، وثورات وحراكات ربيع العرب لن تفلت من هذا المصير. لكن الخروج من كل ذلك هو مسؤولية الجميع وسيحتاج إلى مراجعة دائمة، بينما عيون الأمة لا تنظر إلا إلى الأفق الأعلى المتألق البعيد وليس من خلال غبار مسارات الهلعين.
* طبيب وأكاديمي من مملكة البحرين
886 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع