ليلة عيد عراقية

                                                           

                                   سعد العبيدي

                                   

        

                 ليلة عيد عراقية

حل الصباح في العاصمة البريطانية لندن، تناثرت عبر الهاتف النقال آلاف الرسائل المصممة للتهنئة الكترونياً مثل غزارة مطر لهذه المدينة ينهمر مدراراً طوال السنة، تتيقن منها فقط ومن لقطات عبر التلفاز لهذه القناة أو تلك أنه العيد. تتلفت يميناً وكذلك الى الشمال لا تحس رائحة ذاك العيد الحاصل في بغداد ولا تتأمل فطوراً من الكاهي وقيمر السدة المشهور، ولا زيارة يجتمع فيها الأولاد عند دار العائلة الكبير يلعب الأحفاد في باحته ساعين لتعزيز رابطة الدم... تيقنٌ تشعر فيه قدراً من الغربة تعيدك هرولة الى حياة تشبه الأمس وما قبله لا معناً للعيد فيها سوى الرد على تلك التهاني التي لا تنقطع، صوراً ولقطات مستنسخة خالية من دفئ المشاعر المكتوبة بلغة بسيطة وبأصابع اليد.
قالت مبتسمة ابتسامتها المعهودة الجميلة لقد وجدت الحل سهرة مع مطربة المقام العراقي السيدة فريدة تقيمها في فندق وسط لندن يمكن الشعور في محيطها ببهجة العيد، ووجدت نفسي سائراً في طريق الحل كمن يفتش عن مبتغاه.   
دخلت المطربة قاعة أحتل فيها بحدود المائتين من الراغبين في ايجاد حل لغربة عيد وعشاق المقام العراقي الأصيل أماكنهم حول طاولات مدورة، مشت ببطء واثقة من نفسها، ابتسمت بنكهة عراقية رافعة كلتا يديها تحية تقدير الى جمهور صفق لها منذ لحظة اطلالتها حتى جلوسها على كرسي في مقدمة عازفين تميزهم السدارة الفيصيلية، وفي مشهد لو صور بتقنيات الأبيض والأسود لانعكست على أخاديد الذاكرة صورة عملاق المقام العراقي يوسف عمر جالساً يشدو مقام الرست أواخر سبعينيات القرن الماضي.
مرت بصوتها الرخيم من الأغنية المشهورة آه جميلة الى گصري زبونچ وأشكان الدلال ومن بعدها أويلاه يابه وغيرها أُخرْ تنقلت بينها بسلاسة واقتدار، تنظر الى جمهورٍ لم يرتوي من عطش الغربة، يتعالى وسطه التصفيق مصحوب بزفرات وأنين يأخذ صاحبه الى بغداد أيام تألقها نجمة في سماء الدنيا الفسيحة.
في استراحة عشاء وجبة طعام غلبت عليها النكهة العراقية سأل البعض بعضاً عن آخر زيارة له الى بغداد كأن سلسلة الذكريات في عقولهم قد تقطعت أو فقدت منها وصلات، وكأنهم يرومون إجابات وصفية تعينهم على تجميع صوراً تنعش ذاكرة لهم أخذ العمر منها مأخذاً، الا شيخاً وقوراً الى جانبه سيدة مسنة تسايره مثل ضله، يتكأ عليها وتتكأ عليه، سأل عن أحوال بغداد وعن حي البتاويين بلهجة موصلية فقدت من نصوصها بعض كلمات، قدم نفسه داوود وزوجته ڤيوليت، يهوديان هاجرا وأولادهما الأربعة من بغداد عام ١٩٦٣ إثر مداهمة بيتهما بعد منتصف الليل، فسراها خياراً بين الهجرة أو الذهاب بعيداً في غياهب المجهول، فتركا الدار كما هي وعيون شاخصة اليها، سكنا لندن على أمل العودة اليها يوماً، لم تفارقهما العراقية، عادات، ولهجات تخاطب، وغناء، ونوع طعام وسؤال عن أمل الموت في دار ورثاها عن الأجداد، وعندما وجدا ودٍ في الاجابة عن كثير من الأسئلة التي تشغلهم وعن ما جرى ويجري في بغداد، تقدما برجاء تغلب عليه لغة التوسل بالحصول على صورة حديثة عن قرب للدار، قالا انها مازالت موجودة يتابعان وجودها من موقع گوگل أيرث.
أنهت السيدة وصلتها الغنائية الثانية بتألق كما بدأت، هَمَتْ ملوحةً بتحية الجمهور وتقديم الشكر لحضوره، أنعشها التصفيق فعاودت الغناء ثانية سلطانة طرب حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. وفي طريق العودة الى البيت وسط زخات مطر خفيفة ودرجات حرارة تقترب من الخمسة عشر، تيقنا حقاً أنه العيد.  
لندن ٣/٩/٢٠١٧    

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

533 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع