من حكايات جدتي - العدس وفتاح الفال

                                            

                       بدري نوئيل يوسف

من حكايات جدتي - العدس وفتاح الفال

حدثتنا جدتي هذه الليلة: أن جارتنا أم البنات، سمعت منادي في الزقاق ينادي ( فتاح فال، عداد نجم، فوال)، ويعيدها عدة مرات، خرجت مسرعة تنادي عليه قائلة: 

ـ تعال يا رجل يا فتاح الفال، من زمان وأنا ابحث عنك.
سألها فتاح الفال ببرود:
ـ عندك مشكلة يراد لها حل، أم تفكرين بمراد اقصد هدف، غاية ،الْمُبْتَغَى.
قالت لها بطلب ورغبة:
ـ نعم عندي مراد ولم يتحقق لحد الان.
سألها الرجل فتاح الفال بحيلة وذكاء:
ـ تريدين يصير عندك أولاد، لو تخلصين من حماتك، لو عند ضرة تريدين زوجك يطلقها.
قالت له أم البنات بكل براءة وهدوء:
ـ اطفالي كلهم بنات أريد اعرف متى احبل بولد.
قال المنافق بفرح وسرور بعدما جلس على الأرض ولف ساقيه:
ـ اجلبي لي طاسة فيها ماء بارد، واستكان شاي فيه طحين نمرة صفر.
وعلى الفور جلبت له ما يريد الرجل وجلست مقابله ولفت ساقيها مثله، وبدأ يقرأ في كتاب قديم أوراقه صفراء ويرفرف يده فوق طاسة الماء، وينفخ على الطحين ثم أضافه إلى الماء وحركه بأصبعه وقال لها:
ـ اطعمي زوجك شوربة عدس مساء كل يوم ولمدة شهر .
فرحت أم البنات بشوربة العدس، هذه الوصفة رخيصة متوفرة في المنزل، وأخرجت من صدرها ربع دينار، أخذ فتاح الفال المبلغ منها، على امل أن يعود بعد شهر لمعرفة النتيجة.
اسرعت أم البنات إلى المطبخ وطبخت العدس، وأضافت له البهار والبصل المقلي، وانتظرت المحروس زوجها يعود من العمل بفارغ الصبر، بعدما لبست ملابس جميلة ووضعت قليل من المكياج واحمر الشفاه، ورشة خفيفة من ماء الورد الجوري.
وصل أبو البنات إلى المنزل، واستقبلته بفرح وغبطة، وكاد الزوج يطير من الفرح والسرور لم يستطيع اخفائها، عندما رأى زوجته انيقة تفوح منها رائحة الورد الجوري، ومن عاداتها كانت تستقبله ببرود وتفوح منها رائحة طهي الطعام والدهن المقلي والبهارات.
ومن عادة الزوج أن يحلب معه احتياجات المنزل يوميا، من خبز وخضروات ولحم وكان من ضمنها أنه جلب معه نصف كيلو عدس هذا اليوم، فرحت أم البنات كثيرا وشكرت فتاح الفال على قدرته أن يستطيع يذكر زوجها بشراء العدس.
غير الزوج ملابسه ولبس دشداشته البيضاء ووضع على رأسه عرقجين، وجلس على فرشة والتم حوله البنات ينتظرون العشاء وعصافير بطنهم تزقزق، دخلت عليهم أم البنات تحمل صينية النحاس فيها اطباق نحاسية مملؤة من الطعام الشهي، وقدمت له طبق فيه العدس قائلة بدلال وغنج وبنبرة كاذبة:
ـ جارتنا أم موفق قالت لي : أنها كل يوم تطبخ عدس وأبو موفق يأكله مع العشاء، لأن العدس يقوي مسامير الركب، وله فوائد للعظام والأسنان والصداع، ويقلل الدهن في الدم ويقوي ...!
توقفت أم البنات عند كلمة يقوي ولا تستطيع أن تنطق تكملة الجملة خوفا من زوجها أن يصرخ بوجهها.
سألها مستغربا:
ـ لماذا لا تكملين الجملة، ماذا يقوي العدس؟
بخوف همست بأذنه خجلا أن تسمعها البنات قالت له:
ـ يقوي ... يعني يقوي ... أنت رجال وافهمها.
فهم أبو البنات مقصد زوجته أبتسم، قال لها:
ـ تعرفين يا زوجتي، العدس عدة أنواع منها الأصفر، والبرتقالي، والاخضر، والأسود والعدس البرتقالي يلقب بأبو الفوائد. لأنه يقوي القلب والشرايين، ويمنع الإصابة بالجلطات .
قالت له بفرح:
ـ الآن عرفت أم موفق خبيثة، وكل مرة تتفاخر أمام الجيران ...! وطلعت القوة من العدس. زوجي العزيز، طالما تعرف العدس البرتقالي أبو الفوائد اشتري لنا حتى يوميا اطبخ لك العدس. واتفاخر بكِ أمام جيراننا.
قال لها بابتسامه وسرور:
ـ غدا اشتري لك العدس البرتقالي واسمعي حكاية عن العدس:
– يحكى أنه كان في قرية صغيرة شاب وفتاة يسكن كلا منهما بجانب الاخر، وكانا يحب كلا منهما الأخر حباً
شديداً، ولكن والد الفتاه لم يوافق أن يزوج ابنته لذلك الشاب، وكان يريد أن يزوجها لابن عمها. استمر الشاب والفتاه في حب بعضهما، وكانا يتقابلان كل يوم حيث تصعد الفتاه إلى سطح المنزل ، متحججةً بتنظيف العدس من الحصى والقش، فتصعد كل يوم في نفس الميعاد لتنظيف العدس، فيأتي ذلك الشاب ليتبادل الحديث مع حبيبته دون علم والدها، واستمرا على هذه الحال فترة طويلة من الزمن، إلى أن رآهما ابن عمها الذي كان يريد الزواج منها، فذهب واخبر والدها بما رأى، فجن جنون والدها.
أخذ والد الفتاه سكين وصعد إلى السطح وقد نوى على قتل الشاب، وعندما رأى الشاب الشر في عينه والدها والسكين في يديه، ملأ كفيه بالعدس الموجود على السطح، وقفز من سطح المنزل، واخذ يركض، لحقه والد الفتاه وركض ورائه.
رأى أهل القرية المشهد غير مكتمل، مجرد شاب يحاول الهروب وفي يده بعض العدس ، بينما رجل بيده سكيناً يجري وراءه، وكلما رأى أحدهم المنظر يندهش ويقول: من أجل بعض العدس سوف يقتل الشاب ؟
كان والد الفتاه يسمع كلمات أهل القرية ولكنه غير قادر على قول ما حدث، كي لا يسيء إلى سمعته وسمعه ابنته، وبعدما هرب الشاب عاد والد الفتاة إلى المنزل وعاتبه جيرانه أهل القرية أنه كان يركض خلف شاب بيده عدس قال الجملة الشهيرة ( اللي يدري يدري واللي ما يدري يقول بيده كف عدس ).
ومن يومها وهذا المثل الشعبي يقال بين الناس، وخاصة عندما يلقى أحد اللوم على شخص اخر على فعل شيء لا يعرف سببه الحقيقي والذي ربما يصعب البوح به.
قالت زوجته أم البنات له :كُل يا حبيبي العدس بالهناء والعافية، واسمع هذه الحكاية التي حكتها لي أم موفق تقول: يُحكى أن جماعة من العُزاب، انتقلوا من العيش من بيوت أهلهم، ثم اتفقوا فيما بينهم ، على العيش في بيت واحد، دون الاستعانة بامرأة، وفي أحد الأيام تبرع أحدهم بالطبخ، باعتباره أكثرهم إجادة في عملية الطهي، فقرر أن يطبخ لهم شوربة عدس، وقبل أن ينتهي إعدادها وطهيها، ذاقها أحدهم فقال له :
ـ الشوربة ينقصها الملح، فوضع عليها كمية من الملح .
ثم ذاقها زميله الثاني في البيت، وقال له:
ـ الشوربة مالحة، يلزمها ماء .
فسكب عليها مقداراً من الماء، واستمر الطبخ وهذا شأنه، أحدهم يطلب زيادة ملحها، والآخر يطلب زيادة الماء فيها، حتى استحالت إلى مجرد ماء وملح ، ولا تكاد تعثر على حبات العدس فيها، فقال الشاب الذي يجيد الطهي قولته الشهيرة، وقد أدرك أن الأمر خرج عن يده: (صارت شوربة) .
وأصبحت قولته مثلاً شهيراً، تتناقله الألسن، ويُضرب هذا المثّل تعبيراً عن ضياع الأمور وعدم الإلمام بالأمر.
قال لها أبو البنات وهو يأكل العدس بشراهة:
ـ يظهر لي أن لديك معلومات جيدة عن العدس.
قالت له بثقة وجدية:
ـ غدا عند ترجع من العمل سيكون العدس على سفرة المنزل، تأمله بنظرة العارف أن هذا الصحن له تاريخ، يكفي أنه واحد من خمسة وعشرين وصفة وجدت في العراق ضمن الآثار السومرية في بابل.
ضحك أبو البنات ملء شدقيه قائلا لها:
ـ صبي لي طبق ثاني من العدس.
رفعت يدها إلى الأعلى تدعو وتطلب أن يمنحه الله القوة. وصبت له الطبق الثاني وعصرت فوقة نصف ليمون حامض وقدمته بلطف وابتسامه وفرح ودلال وغنج قائلة:
من صحن العدس اغرُف وعبّي
عدس يا غالي أطيب ما عندي
يديمك يا عدس مع الليموني
مع ربطة فجل وصحن الزيتوني
اغرف يا عيني واصحى تنساني
يا محلا إياديك وفيها هناي
قال لها بفرح :
ـ تعالي يا زوجتي أجلسي بجانبي، فأنت اليوم مبدعة وجميلة في كل تفاصيلكِ وكلمني عن العدس.
قالت له بخجل بعدما احمرت وجنتيها:
العدس الليلة ليلة عيده
يا رب تبارك وتزيده
يا رب تبارك يا رب
مش عايز يخلف مواعيده مواعيده
يا رب تبارك تبارك وتزيده
مرت الأيام وكل يوم أبو البنات يأكل العدس صباحا ومساء إلى أن انفجر بوجه زوجته قائلا:
ـ هذا أخر يوم أكل عدس، وإذا تكرر طبخه في هذا البيت فأنت طالق.
عرفت أن الفتاح الفال ضحك عليها، وبالربع دينار كانت تستطيع شراء عشرين كيلو عدس، رفعت أم البنات المسكينة العدس من منزلها واعطته إلى أم موفق التي تطعم زوجها كل يوم عدس يقوي صحته ومسامير ركبه.
وهكذا غنت نعيمة عاكف أغنية الشهيرة (العدس الليلة). تحكي حال محبين العدس ومبغضين العدس.
وتصبحون على خير .

من فيلم اربع بنات وضابط (العدس الليلة):
https://www.youtube.com/watch?time_continue=73&v=cppu11Vbmus

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1068 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع