بيلينسكي في روسيا بين الامس واليوم

                                                      

                               أ.د. ضياء نافع

بيلينسكي في روسيا بين الامس واليوم

كان بيلينسكي ( 1811-1848) في الاتحاد السوفيتي الناقد الادبي رقم واحد في كل الدراسات والبحوث الادبية , وكان الاستشهاد باقوال بيلينسكي وافكاره يعني صحة اي موقف من المواقف الادبية في اي نقاش او حوار يجري حول اي موضوع من مواضيع الدراسات الادبية تلك بغض النظر عن طبيعتها وتفاصيلها وأغراضها. وعندما كنّا طلبة في كليّة الفيلولوجيا ( اللغات وآدابها ) بجامعة موسكو في ستينيات القرن العشرين , كنّا نوصي بعضنا البعض اثناء اداء الامتحانات ( وهي شفهية بشكل عام وامام لجان مختصّة) ان (نقحم!) اسم بيلينسكي في اجاباتنا ونذكر اي قول من أقواله ونستشهد بها , كي تبدو هذه الاجابات علمية ومقنعة امام تلك اللجان الامتحانية . لقد كان بيلينسكي رمزا فكريا واضحا لمجتمع الحزب الواحد 

والرأي الواحد , المجتمع الذي انتصرت فيه ايديولوجيا واحدة , ولم تكن تسمح لأيّة ايديولوجيا اخرى حتى بالتعايش معها وبأي شكل من الاشكال , (وتوجد لوحة سوفيتية يقف في يسارها بيلينسكي وفي يمينها رائد الفضاء غاغارين وفوقه العلم السوفيتي يرفرف فوق برلين عندما دخلت القوات السوفيتية منتصرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ويوجد في وسط تلك اللوحة صاروخ سوفيتي ضخم , وتجسّد هذه اللوحة كل المفاهيم السوفيتية حول بيلينسكي وموقعه في الاتحاد السوفيتي ) , وقد تم نصب تمثال له وعدة تماثيل نصفية في مدينة بينزا الروسية , وتم حتى تسمية مدينة صغيرة باسمه في محافظة بينزا هذه , وتوجد شوارع وساحات عديدة ومكتبات عامة تحمل اسمه في العديد من المدن الروسية ...الخ .
انعكس هذا الرأي السوفيتي طبعا على الحركة اليسارية العربية عموما, فقد اصبح بيلينسكي نجما ساطعا في دنيا النقد الادبي العربي , وكذلك بالنسبة لنا نحن العراقيين الذين كنّا ندرس الادب الروسي في موسكو , فقد كتب عنه د. حميل نصيف التكريتي اطروحته في جامعة موسكو, وكان بيلينسكي جزءا من اطروحة المرحوم د. جليل كمال الدين عن النقد الادبي الثوري الديقراطي في نفس تلك الجامعة , وأصدرت المرحومة د. حياة شرارة كتابا في بيروت عن بيلينسكي ضمن سلسلة أعلام الفكر العالمي , وأذكر – مرة- ان جاء المرحوم د . عبد الآله أحمد ( الناقد الادبي و الباحث المشهور ) الى قسم اللغة الروسية وكان غاضبا وزعلانا على د. جميل نصيف التكريتي الذي كان آنذاك رئيسا لقسم اللغة العربية في كليّة الآداب , حيث كان يعمل د. عبد الآله , وقال بصوت عال وهو يحاول ان ينتقص من علميته – لماذا لا ينشر اطروحته عن بيلينسكي ؟ معتبرا ان ذلك نقيصة في نشاطه العلمي آنذاك , وقد حاولنا جميعا ان نهدّأ من غضبه وزعله بالطبع ونحن نبتسم , ونقول له , ان د. جميل يستشهد بافكار بيلينسكي دائما , وان افكار هذا الناقد الكبير تنعكس تلقائيا على مجمل نشاط التكريتي الادبي حتى دون نشر اطروحتة عنه , الا ان د. عبد الآله ( الغاضب على د. جميل نصيف عندها) لم يقتنع بكلامنا ولم يهدأ.
لكن بيلينسكي لم يكن هكذا عندما ظهر في الساحة الفكرية الروسية في الثلث الاول من القرن التاسع عشر, وانما كان واحدا من مجموعة متنوعة الاتجاهات من النقاد والمفكرين الروس في الثلث الاول من ذلك القرن في روسيا , وكان بيلينسكي ناقدا بارزا وذكيّا وشجاعا , واصبح مشهورا رغم انه كان عليلا بشكل عام و عاش 37 سنة ليس الا ( وتوفي بسبب مرض السلّ) , واستطاع – مع ذلك - ان يلعب دورا كبيرا في عالم الادب الروسي آنذاك , وكتب مقالات عميقة في النقد الادبي عن بوشكين وليرمنتوف وغوغول , وكذلك عن ادباء روسيا في القرن الثامن عشر , واصبحت كل تلك المقالات شهيرة في ذلك الزمن بالذات , وأثارت اهتمام الاوساط الادبية في روسيا آنذاك ولازالت تمتلك اهميتها وقيمتها لحد الان ويدرسها الباحثون في تاريخ الادب الروسي , ولكنها – مع ذلك - لم تكن تعني انها الكلمة النقدية الفاصلة والحاسمة , وان اي رأي آخر معاكس او غير مطابق لها او غير متناسق معها هو خاطئ او غير صحيح كليّا او جزئيّا , وانما كان باب الاجتهاد مفتوحا على مصراعيه كما يقولون , وكان هو واحدا من النقاد ليس الا, رغم انه كان ناقدا متميزا بينهم .
يعدّ بيلينسكي من ضمن اوائل المثقفين والنقاد والادباء الروس , الذين كانوا يؤيدون النزعة الغربية ضد النزعة السلافية , وهو الصراع الفكري الذي سيطر بعدئذ – وبكل وضوح - على مسيرة الادب الروسي لاحقا وعبر كل القرن التاسع عشر , وعندما حلّ القرن العشرون وانتصرت ثورة اكتوبر1917, اصبح الرأي المرتبط بهذه النزعة هو الرأي الصحيح لأنها كانت المضادة للنظام القيصري , النظام الذي أسقطته الثورة , و اصبح الرأي المعاكس له غير صحيحا ( اي النزعة السلافية) لانها لم تكن مضادة للقيصرية . ان هذه النظرة ( المبنية على الموقف السياسي فقط) في الفكر هي نظرة سطحية بلا شك, لأنها تلغي كل الالوان وتبقي على اللونين الابيض والاسود فقط , دون ان تفهم , انه حتى اللون الابيض (عندما نحلله بعمق) يمتلك العديد من الالوان , وهذا موضوع فلسفي مطروح امام البشرية جمعاء , وكم عانت الشعوب ( بما فيها شعوبنا العربية) في مسيرتها من هذه النظرة التبسيطية والساذجة ...
بيلينسكي اليوم في روسيا – ناقد ادبي كبير في تاريخ الادب الروسي , ولكنه ليس الناقد الاوحد . انه جزء مهم وحيوي ورائع ايضا في مسيرة الفن والادب الروسي والفلسفة الروسية , ولكنه ليس كل شئ وفوق كل شئ في هذا البحر الفكري الكبير بامواجه الهائلة والمتلاطمة مع بعض .
هل تتذكرون شعار – لتتفتح مئة زهرة ؟؟ الشعار الذي كنا نراه معلقا فوقنا , ولكننا لم نراه يمشي حيّا في الشارع معنا وبيننا ...

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1469 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع