الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
فيروس كورونا.. وقائع ودروس وعِبر
في 31 ديسمبر من عام 2019م تم الإعلان عن اكتشاف فيروس كورونا الجديد، وقد سببت ولادة ذلك المارد المجهري المرعب ظهور حالة جديدة غير مسبوقة يشهدها مسرح الحياة المعاصرة، ومنذ ذلك التاريخ والعالم يعيش في حالة خوف ورعب متزايدة لم يشهد لها مثيل، وضاق كوكب الأرض على أهله و (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) (التوبة: 118).
وفيروس كورونا كائن مجهري عابر للقارات، بدأ رحلته المرعبة من بؤرة صغيرة في سوق للأسماك في مدينة ووهان وسط الصين، ثم عَبر إلى اليابان، ثم انتقل إلى شرق آسيا ثم الشرق الأوسط، ثم وصل إلى أوربا، ثم عَبر المحيط الأطلسي واقتحم الأميركتين.
كائن بسيط ظهر فجأة على مسرح الحياة بلا مقدمات، وفرض نفسه على مختلف المجتمعات، وأصبح يخافه ويهابه الجميع. يتنقل في أرجاء الأرض بصمت مخيف، تتهاوى أمامه الحدود، ولا تستطيع أن تصده الجنود! عبر هذا الكائن البسيط الحدود بلا جواز سفر أو استاذان، وأثار الرعب في مُختَلف البلدان.
بدأ رحلته من الصين، وتعلل عند الجيران كوريا واليابان، ثم انتقل إلى إيران، وحل ضيفا ثقيلا في الكويت والإمارات والسعودية ومصر وعُمان. ثم عَبر البحار ووصل القارة الأوربية وعشعش عن الطليان. ثم أكمل مشواره عند الفرنسيين والألمان والإنكليز والأمريكان.
أجبر هذا الكائن البسيط رؤساء الدول للوقوف أمام عدسات الفضائيات ليعلنوا حالة الطوارئ الوطنية لمواجهة هذا (الكائن البسيط)، فيخرج الرئيس الأمريكي ومعه كبار المسؤولين ليقول: (الوضع تحت السيطرة).
الخسائر البشرية تتصاعد:
لقد أصبح الحديث عن المارد المخيف حديث الساعة في كل مكان، ونالت أخباره مواقع الصدارة في البيوت والمجالس ومختلف قنوات الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، وأضحت مسألة حصر خسائره البشرية والمادية مسألة بالغة الصعوبة لتصاعدها المستمر على مدار الساعة. وحتى ساعة كتابة هذه المقالة بتأريخ 14/3/2020 بلغ عدد المصابين بهذا الفيروس 144,406 وبلغ عدد الوفيات بسببه 5,432. وتحتل الصين موقع الصدارة بالوفيات 3,189، تليها إيطاليا 1,7660، ثم إيران 514.
أوربا في مهب الريح:
لقد اخترق الفيروس المرعب القارة الأوربية وهيمن على أجواء جميع بلدان القارة العجوز التي أضحت من أكبر بؤره. وتمر إيطاليا بظروف عصيبة بسبب كورونا، وسجلت يوم أمس رقما قياسيا بوفاة 250 شخص في يوم واحد بسبب الفيروس. وقد اضطرت السلطات الإيطالية إلى استدعاء الأطباء المتقاعدين إلى الخدمة. كما تم إعلان حالة الطوارئ واُغلقت ايطاليا بالكامل وتم إنزال الجيش لتنفيذ الأوامر. وتناقلت الأنباء تصريح رئيس وزراء ايطاليا باكيا: "نحن أمام كارثة وطنية.. إيطاليا في خطر.. نحاول بأقصى قدراتنا محاربة هذا الوباء.. ندعو الله لأن يساعدنا.. صلّوا لأجل إيطاليا".
وترك تصريح انجيلا ميركل ردود أفعال قوية أرعبت الشعب الألماني عندما ذكرت أن 70% من الشعب الألماني معرض للإصابة بفيروس كورونا، أما رئيس وزراء بريطانيا فقد أرعب الشعب البريطاني عندما ذكر أن الكثير من العوائل سيفقدون أحبائهم بسبب هذا الفيروس.
من تداعيات فيروس كرونا الجديد:
لقد ألقى فيروس كورونا ضِلاله الثقيلة في كل مكان، وتسبب بخسائر جسيمة على مختلف المستويات. فمُنعت التجمعات البشرية، وأغلقت الأماكن العامة والمقاهي وقاعات الأعراس والسينمات. وأغلقت الجوامع والكنائس، وتم تعليق صلوات الجمعة، واُتخذت إجراءات صارمة بغلق المسجد الحرام في وجه المعتمرين. وفي المجال الرياضي أوقفت الدوريات والبطولات الرياضية، كما أوصدت الحدود بين المدن والدول.
وبسبب حالة الخوف والهلع من المارد المجهري أغلقت رياض الأطفال والمدارس والجامعات أبوابها، وأعلنت حالات منع التجوال في بعض المدن. وشهدت الأسواق حالة ركود كبيرة، وضعفت الحركة في الأسواق والمحلات العامة، وأصاب الشلل التام الشركات السياحية. حدثني هذا اليوم طبيب أسنان يعمل في أستراليا عن عزوف المراجعين عن مرجعة عيادته بسبب الخوف من العدوى، وذكر أن عيادته أصبحت خاوية بسبب عدم مرجعة أي مريض له منذ عدة أيام.
ومن تداعيات هذا الزائر الثقيل على كوكب الأرض ظهور العديد من المشاكل بسبب تقييد حركة الناس وخوفهم الخروج من بيوتهم أو السفر، كما برزت ظاهرة "مدن بلا سيّاح وطائرات بلا مسافرين"، حيث شهدت القطاعات السياحة في أرجاء المعمورة خسائر مالية جسيمة بسبب تقييد حركة المواطنين، وأضحت المنتجعات والفنادق السياحية تسكنها الأشباح.
الخسائر الاقتصادية:
لقد مني الاقتصاد الدولي بخسائر مالية جسيمة بسبب فيروس كورونا، وقد بلغت الخسائر 3 تريليون دولار فضلا عن 264 مليار دولار في البورصات العالمية. وشهدت أسعار النفط هبوطا كبيرا بسبب توقف المصانع الصينية، وقد تسبب ذلك بفوضى بأسعار العملات والأسهم.
ووصل إجمالي خسائر 15 من أثرياء العالم 23 مليار دولار. وصُنف الملياردير الامريكي (برنار أرنو)، على أنه أكبر الخاسرين من الفيروس اللعين والذي أفقده 3.91 مليارات دولار من ثروته خلال يوم واحد فقط!
وتكبدت شركات الطيران العالمية خسائر تُقدر ب 133 مليار دولار بسبب إلغاء رحلات دولية، أما خسائر النقل الجوي فقد بلغت 30 مليار دولار. وتفيد المعلومات أن فيروس كورونا يكلف السياحة العالمية خسارة قدرها 47 مليار دولار شهريا، وقد بلغت خسائر السياحة إلى الآن 1.7 تريليون دولار.
أما صناعة السينما العالمية فتواجه عامًا كئيبًا، إذ تشير التقديرات إلى خسارتها خمسة مليارات دولار بسبب الفيروس مع إغلاق المسارح والسينمات وتراجع إيرادات شباك التذاكر بشكل درامي.
وأعلنت شبكة CNN الأمريكية عن خسائر فادحة لعملاق صناعة الهواتف الذكية "آبل"، حيث وصل حجم الخسائر إلى نحو 35 مليار دولار من قيمتها السوقية، وقد اعترفت الشركة بأن انتشار فيروس كورونا أضر بها أكثر مما كان متوقعا، حيث أن انتشار الفيروس في الصين خلال الفترة الماضية قلل من عدد الأجهزة التي يتم تصنيعها في الصين ومنها هواتف آيفون.
تأثير الفراشة:
تقول منظمة الصحة العالمية إن ثلثي سكان الأرض مهددون بفيروس كورونا. وقال خبير صحي" إن إجراءات الحجر قد تبطئ تفشي الفيروس لكنها لن توقفه لأنه تمكَّن من التسلل إلى خارج الصين قبل اتخاذ هذه الإجراءات". وأشار إلى أن كل مصاب حاليا ينقل الفيروس لشخصين أو ثلاثة أشخاص بالمعدل ما قد يؤدي إلى إصابة نحو ثلثي سكان الأرض به في نهاية الأمر. وقالت منظمة الصحة العالمية أن انتشار الإصابات بين الأشخاص الذين لم يسافروا إلى الصين قد يكون "شرارة ستتحول إلى حريق كبير"، وهذا ما يُعرف بعلم الرياضيات بالمصطلح (تأثير الفراشة Butterfly Effect).
دروس وعِبر:
لقد أعطى هذا الفيروس البسيط للبشرية درسا بليغا بأن الإنسان مهما بلغ من قوة وتطور حضاري فإنه يبقى مخلوق ضعيف يعيش في كنف ملك الملوك الله جل جلاله (إنَّ في ذَلكَ لَآيَاتٍ لأُولي النُّهَى) (طه: 54)- أي لأصحاب العقول. وهذا الكائن المجهري ما هو إلا جندي من جنود الله (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ) (المدثر: 31). نسأل الله تعالى أن ينجي البشرية من ويلاته ونتمنى أن يتعظ أولوا الألباب (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 100).
3342 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع