الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنّون الخياط
أستاذ متمرس/ جامعة الموصل
الرَّقي والبطيخ.. ملوك الفاكهة الصيفية العراقية
يتربع الرَّقي والبطيخ (الشمّام) على عرش الفاكهة الصيفية العراقية بلا منازع، فهي فاكهة منعشة تطفئ عطش الصيف المُلتهب، وهي رخيصة في متناول الجميع؛ وهي أقل الوجبات تكلفة لرب الأسرة الفقير، حتى يقال في المَثَل الشعبي (الصيف أبو الفقير) لوجود الرَّقي والبطيخ فيه.
الرَّقي والبطيخ فاكهة الجميع بامتياز، ولها حضور كبير في المجتمع، ويحبها الصغير والكبير؛ والغني والفقير. تنتمي هذه الفاكهة إلى العائلة القرعية وتُشكّل المياه النسبة الأكبر من ثمرتها. وقد روى أبو داود والترمذي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يأكل البطيخ (أي الرَّقي) بالرطب يقول: "نَكْسِرُ حَرَّ هَذَا ببَرْدِ هذا، وبَرْدَ هَذا بِحَرِّ هذا".
تعتبر تربة وجو العراق ملائمين لزراعة الرَّقي والبطيخ، ومن المدن العراقية التي تشتهر بزراعتهما الموصل وسامراء والبغدادي والفلوجة والهندية في كربلاء والحويجة في كركوك وأربيل والعظيم في ديالى والزبير في البصرة. ويتميز البطيخ الزبيري برائحته الزكية ولبه الأخضر، وله خصوصية غريبة وهو أنك لو وضعت بطيخة قرب عجين فلن يختمَّر لأن رائحته تشل حركة بكتيريا التخمر. ويشتهر البطيخ أنه جاذب للعقارب، ولعل السبب في ذلك رائحته القوية الجاذبة.
الرَّقي:
يُسمى الرَّقي في معظم مناطق العراق "الرَّگي"، ويسمى في داخل الموصل "الشِمزي"، في حين يسمى في ريف الموصل "الدِّبشي"، وفي شمالنا الحبيب يسمى "شتي" أو "زَبش". أما في بلدان العالم العربي فيُسمى "البطيخ الأحمر" أو "البطيخ"، وفي اليمن يسمى "الحبحب"، ومن أسمائه الأخرى الدلاح، الجح، الجبس.
في الطب النبوي ينبغي أكل الرَّقي قبل تناول الطعام، وقال بعض الأطباء: (أكل الرَّقي قبل الطعام يغسل البطن غسلاً، ويذهب بالداء أصلاً). ومن أهم مكوّنات الرَّقي مادة الليكوبين المضادة للأكسدة، وبفضل هذه المادة تقلُ فرص الإصابة بسرطان البروستاتا والقولون والوقاية من أمراض القلب وتقلُّ فرص تراكم الكولسترول في الجسم. كما تحافظ هذه المادة على صحة العظام وتقوية المفاصل والتّخلص من آلامها؛ حيث يمتص البوتاسيوم عنصر الكالسيوم ويثبته في العظام.
والرَّقي مدر البول، وله فوائد خاصة للرجال المتزوجون، وبخاصة كبار السن. والرَّقي علاج مهمّ لتنحيف الجسم، وتحتوي قشرته الداخلية البيضاء على مادة السيترولين، وهي من الأحماض الأمينيّة التي تساهم في الوقاية من الإرهاق العضليّ. كما أن قشور الرَّقي مفيدة في مقاومة تَساقط الشعر والوقاية من الصلع، حيث تُهرس من الخيار ويُوزّع المزيج على الشعر ويُترك لمدة ربع ساعة.
وبذور الرَّقي غنيةٌ بالبروتينات عالية الفائدة وتحوي على نسبة عالية من الدهون غير المشبعة، وخصوصا (أوميجا) المساعد في تخفيض نسبة الكولسترول في الدم.
البطيخ "الشمّام":
أما "البطيخ" (الأصفر) Melon فالمقصود به في العراق "الشمّام". لأحظ الاسمين متقاربين حتى باللغة الإنكليزية: Melon للأصفر و Watermelon للأحمر، ويسمى البطيخ في شمالنا الحبيب "كوندور".
يتميز البطيخ برائحته الجميلة المنعشة، ومذاقه الحلو اللذيذ، ويعدُّ البطيخ من أرخص الفاكهة الصيفية في العراق، في حين أنه من أغلى الفواكه في أوربا لأنه لا يحتمل التخزين الطويل وغالبا ما يتم نقله بالطائرات.
يحتوي البطيخ على نسبةٍ عاليةٍ من الكربوهيدرات والبروتينات النباتية المفيدة، كما يحتوي على نسبةٍ عاليةٍ من سكر الفركتوز "سكر الفواكه" بالإضافة للفيتامينات والمعادن، مثل المنغنيز. ويحتوي البطيخ على الفلافونيد، وهو من المضادات الحيوية الطبيعية، حيث يقضي على الجذور الحرة للخلايا، ويمنع الإصابة بالسرطان، ويقوي القلب ويحافظ على صحته وينظم ضرباته ويمنع تسارعها. ومن فوائد البطيخ أنه يزيد في إنتاج كريات الدم الحمراء، ويخفض ضغط الدم المرتفع، ويقوي النظر، ويمنع جفاف العين، ويمنع الإصابة بالالتهابات البكتيرية والفيروسية، كما يمنع من الإصابة بالإمساك وبالبواسير.
رَّقي وبطيخ الموصل الشهير:
من المنتجات الزراعية التي تشتهر بها مدينة الموصل تاريخيا هو الرَّقي، وأتذكر في السبعينيات عندما كنتُ أذهب الى بغداد بالصيف أجد الباعة المتجولون في شارع الرشيد وشارع السعدون يبيعون الرَّقي وهم ينادون (رگي مال الموصل). وكان معنا أستاذ في جامعة الموصل من أهل البصرة، وفي أحد الأيام سألته عن سبب اختياره جامعة الموصل؟ فأجاب ضاحكا: والله جيت لأجل رگي الموصل!
ومن أشهر مناطق الموصل في انتاج الرَّقي منطقة (السلّامية) والتي تقع على ساحل دجلة جنوب الموصل، حيث يعتبر رَّقي السلّامية هو الأجود. وأتذكر قصة ذكرها المرحوم والدي، حيث قال: في العام 1956 زار ملك العراق المرحوم فيصل الثاني (1935- 1958) بريطانيا بدعوة من الملكة اليزابيث، وكان من ضمن الهدايا التي أخذها معه للملكة رَّقي السلّامية.
وفي سنة 1986 زرتُ إحدى مزارع الرَّقي في السلّامية، فوجدتُ فيها رقي بأحجام كبيرة جدا يصل وزن الواحدة منها حوالي 20 كغم. فأردتُ شراء بعضا منها، فقال لي الفلاح أنها محجوزة إلى شخصيات مهمة في بغداد.. ثم أقنعته وأخذتُ بعضا منها بسعر دينار واحد للواحدة (وهو سعر غالي في ذلك الوقت)!
لقد كان رَّقي الموصل مطلوبا كثيرا في داخل العراق وخارجه، وكان يتم تصديره إلى دول الخليج بواسطة سيارات كبيرة تُغطى بأغطية نباتية خاصة للمحافظة عليه. وفي السنين الأخيرة غُمرت الأسواق المحلية بالرَّقي المستورد من دول الجوار وتم إهمال هذا المنتج الوطني الذي لا ينافسه أحد في المنطقة.
أما البطيخ فمن أشهر مناطق زراعته في محافظة نينوى بلدة (القوش) التي تقع 50 كيلومتر شمال مدينة الموصل على سلسلة جبلية تفصل محافظتي نينوى ودهوك. والبطيخ الألقوشي متميز بطعمه ونكهته ويُزرع عادةً ديما (بدون سقي) في نهاية فصل الربيع. وكنتُ كلما أسافر إلى بغداد آخذ منه هدايا للأصدقاء.
لقد شهدت السنين الأخيرة تدني كبير ومستمر في إنتاج هذا البطيخ المُميز نتيجة لعدم وجود حماية للمنتجات الوطنية، وقد شهد هذا العام عودة قوية لظهور البطيخ الألقوشي بنكهته الرائعة في أسواق الموصل بسبب ظروف جائحة كرونا بعد فترة فتور طويلة دامت سنين عديدة.
الرَّقي والبطيخ في الأمثال الشعبية:
للرَّقي والبطيخ حضور لطيف في الأمثال الشعبية، أحد الأمثال يُشبِّه مشروع "الزواج" "بالرَّقية": (الزواج مثل الرَّقية: يا بتطلع بيضاء يا بتطلع حمراء)!. وفي السياق ذاته يُنصح من يقوم بعملين في وقت واحد بالمثل القائل: "رقيَّتين باليد ما بتنشال". ومن الأمثال الموصلية الشائعة التي تقال في سوء الحظ: (حظي في كل شيء أسود بس بالشِمزي "أي بالرَّقي" فهو أبيض)!
ومن الأمثال الشعبية "طَلّ البطيخ بَطَّلوا الطبيخ"، حيث يشير هذا المثل إلى أنّ الناس بمجرد ما يتوفر ثمر البطيخ، يُكثرون من الاعتماد عليه كغذاء أساسي، فيقل "الطبيخ" كما يقولون. ومن الأمثال الشعبية الشائعة بالعراق "البطيخة تدوِّد من لُبُّها": ويُستخدم هذا المثل للإشارة الى أن الخلل يبدأ من الأصل "اللب".
وهناك مثل يقوله العراقيون من باب السخرية والهزل: "ولاية بطيخ" وصفاً لكل مدينة تظهر فيها الفوضى والتسيّب وعدم ائتمان الناس على أموالهم. وانطلاقا من 1 ابريل 2016 وعلى مدى مواسم عدة قامت بعض الفضائيات العراقية بعرض برنامج كوميدي ساخر عنوانه "ولاية بطيخ Melon City Show"، يتناول القضايا والشؤون السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية لدى المجتمع العراقي بصيغة كوميدية هزلية.
4826 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع