زيد الحلي
نوارس مثخنة الجراح :حين يكون الشعر سردا لذات مجروحة ..
حينما سلم الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد ، جائزته للشاعرة العراقية " حياة الشمري " في حفلة كبيرة اقامها المنتدى الثقافي العراقي في دمشق العام 2010 قال لها امام الحضور : انك ياحياة ، بذرة شعر مهمة ، والمستقبل ينتظرك .. حياك الله ..
وبقيتُ اتابع " حياة " في ما تنشر ، وفي كل مرة ، أقرأ فيها للشمري ، تتجسد امامي مقولة الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد ، وهي مقولة بمعان عميقة ، وشهادة كبيرة ينطق بها شاعر بمستوى عبد الواحد ..
لقد وجدتُ ان الكلمة لدى " حياة " منزوعة عنها السطح البراق ، ومجردة من القشرة الكاذبة ، لتصبح نقية ، بسيطة ، شفافة وتستوي قوية ثابة رقيقة ، لا تبغي الاثارة بل تتطلع الى ان تحكي معاناة الذات ، وهي القائلة في ديوانها الجديد (نوارس ... مثخنة الجراح ) بقصيدة حملت اسم " قال وداعاً " :
تتفرعُ الدروبُ
وأضلعي
لا ترحمُها المدفأة
الروح صحراء
ربيعاً
او بعض خريف
لا يحتمل العمرُ السقوط
وهذه السنون الخمسون
ليل ... صمت ..
لا منيات
سقف هشيم
وغدران دمع
لمن أعتلى
مئذنة الروح
وقال وداعاً
كان خريفاً لئيماً
وأنا أحرث الهواء
أزرعُ
في الماء روحي
حتى صببتُ
كأسي الأخير
لا
:
:
:
لا لن ترتعش أناملي
فوق قميصي
ولن يعربد الجسد
برقصته الغجرية
عند رؤياك
في هذه القصيدة ، وبقية قصائد المجموعة ، يلمس القارئ اسلوب زاه ومشرق ، لا يخلو من وضاءة ورونق ، بحيث يبهج ويستثير الشعور بالاعجاب ، وقد برهنت الشمري بقدراتها الاسلوبية على ان صلتها باللغة هي صنف من أصناف المخادنة او الامتزاج الذي يتأسس على مبدأ التجاذب المتبادل ، وهو ما يجعل كلا من الطرفين محرضاً للآخر على النمو والاضطراد ... واستطاعت "الانثى" الراخمة في باطن لغة "حياة " ان تنجب اوتثمر كل ماهو يانع او خصب ، كما سعت الى ابدال التعبير والمفردات القديمة التي استنزفت حيويتها ، بتعابير ومفردات جديدة مستمدة من صميم التجربة ، ومن حياة الناس .. ما لمسته في شعر حياة ، هو دقة احاسيسها ، وقدرتها على التقاط الجزئيات الموحية من مجرى حياتها الواقعية لاسيما الوجدانية منها ، حيث المتعب ، اكثر من السعيد ، لكي تخلق منها نسقا ادبيا متكاملا ، وقد استطاعت ان تلقف من تلك الحياة صورة معينة وان تستبطن هذه الصورة مستوحية منها كل ما يشع من المعاني والاحاسيس ، المبهرة ، والجريئة ، وكل ما يفيد في تعبيرها الفني ، وقد هاتفتها مرة ، ما زحاً : ما هذا الوجد في ما تكتبين يا "حياة " ، فلم تجبني لكن ضحكتها كانت إجابة موحية بكل معاني الصبابة ، إنها شاعرة انثى وليست انثى شاعرة ، واحسست بأن رئتييّ امتلأت بالنسيم العذب .. من خلال زفرات إرتياح غير مسموعة افرغت فيها كل مشاعرها في الفضاء ، جعلتني اسبحت في عالم من الخيال و الطرب و الأحلام .
في قصيدة ( لا تغب ) تقول :
اهبط على صدرك
موج صيف ناعم
ازاحمُ انفاسك
وضوُء جسدي
السومري
يلتفُ ضياءاً
نوارس عشق
أستيقظ
من صمت البحار
فصولا
أتهالكُ
وسادتي ريحً
لغتي
شفاه تراتيل
تعانقُ شفاهك
لهفة
حنيني يتوجعُ
كصخب بحر
فتتكسر
مرآة الروح
على وجع الفراق
فيا آسي
لاتغب
في متاهات
الظنون
ويلاحظ قارئ هذا النص عدم وجود غموض فيه ، او حالم ، او مغلف بالسحاب ... بل وضوح قاس ، عنيد ودقة موضوعية ، لا يمكن ان يساء فهمها ... كلمات كالسيف لا يمكن ان تحمل معنيين ..تستبعد العرضي لتستخلص الضروري ، وبذلك تؤكد حياة الشمري ، ان الشعر يجب ان يعبر عن واقع شفاف تتخلله اشعة المعرفة والفهم والذوق. ويجسد الصورة الرحبة ، والايقاع الطليق ، والتأزم المكتوم .
لقد تأكدتُ من خلال قراءتي لكتابات الشمري ، إنها تتماهى مع افعال التناقض الجميلة ، بمعنى إنها تشعرك بملامسة العذوبة الى جانب الخشونة ، والتطمين يلازم الصدمة ، والتسكين يآخي الحريض ، والرمز لا ينفصل عن الواقعية ، والوهم يتداخل مع الحقيقة ، والوضوح وجه آخر من عالم الغموض والغموض يلبس جسد الوضوح والمعقول كأنه الاّمعقول.. وهي بذلك تؤكد شاعريتها بشكل جميل .
في قصيدة ( حلم الصباح ) تقول حياة الشمري :
خلف أجنحة
الزجاج البارد
انتظرك شمساً
اُهاجسك
وعيون كمرايا قصائدي
يخرسني نبض فؤادي
فأهرب
وروحي
بين اضلع تكورت
يراودها حلم
كالصباح
أيتها الكأس الطافحه
بنقش صورته
أمنحيني
لذة العرّافات
ومتاهة
أجمع خطوطها
لأصل اليه ..
ضم الديوان 40 قصيدة ، معظمها يشيئ الى إنها صور شعرية ذاتية المعنى ، تحكي حكايا شخصية ، بفصاحة اسلوبية جعلت المعنى بين يديك ، معلنة عن نفسها شيئا فشيئا ما اعطى للديوان طعماً محبباً ، جعل المتلقي يعيش آهات وتجارب الكاتبة ، او هكذا ارادت الشاعرة ان تصور الأمر لمتابعيها .. فما احوجنا الى مثل هذا الشعر، الذي يدخل هاجسنا بدعة ووداد .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
436 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع