الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
الپاچة العراقية وحديث الذكريات
تُعدُّ الپاچة من أشهر الأكلات الشعبية في العراق، ويتطلب عملها جهدا خاصا، مما يجعل بعض النساء ينفرون منها ويفضلون الدولمة عليها والتي يُطلقون عليها (بقلاوة النسوان)، أما الرجال فيضعون الپاچة في المقدمة بوصفها (ملكة الأكلات بلا منازع).
وعلى الرغم من أن عشاق الپاچة يفضلونها في كل المواسم صباحا ومساءا، إلا أن لها حضور جماهيري كبير في مثل هذه الأيام مع دخول فصل الشتاء وقدوم البرد وحاجة الجسم إلى سعرات حرارية تعطيها الپاچة.
وتشير المصادر إلى أن الپاچة في الأصل أكلة موصلية متوارثة، ومن الموصل انتقلت إلى بغداد وباقي المحافظات. وتعرف الپاچة كذلك في دول الخليج والسعودية بنفس الاسم، وتسمى في الشام بالمقادم أو القشة، في حين تُعرف في مصر واليمن بالكوارع.
هناك العديد من العوائل العراقية التي تحمل لقب (الپاچة چي)، ومن أشهرها عائلة رئيس وزراء العراق الثاني والثلاثون مزاحم الپاچة چي (1891-1982) ونجله السياسي والدبلوماسي المخضرم ورئيس مجلس الحكم الانتقالي في العراق الدكتور عدنان الپاچة چي (1923- 2019)، وهما من عائلة الپاچة چي البغدادية القادمة من الموصل من عشيرة عبدة المتفرعة من قبيلة شمَّر العربية.
تُصنع الپاچة من رأس وأرجل وأحشاء وحوايا الخروف المسلوقة والمحشية بالرز وقطع صغيرة من اللحم، ويمكن صناعة الپاچة من العجول أو البقر. ومن المواد المُكمِّلة والتي تُزيد من نكهة الپاچة الثوم والليمون الحامض ونوم البصرة والبهارات والهيل والقرفة، حيث تُقدم الپاچة مع ثريد الخبز.
والقطع الأهم من الپاچة هي الأمعاء بعد أن يتم تنظيفها بالماء والخل وتُحشى بالأرز المخلوط مع قطع اللحم الصغيرة لينتج ما يسمى (الممبار)، بالإضافة إلى كرشة الخروف بعد أن تُنظف ويتم حشوها هي أيضا وتخييطها ومن ثم سلقها في ماء اللحم.
وتحضر الپاچة في الشام بطريقة مختلفة قليلا، وفي فرنسا تم اقتباس الپاچة إلا أنها تُشوى في الشواية كما يشوى الدجاج.
لقد بدأت الپاچة في أوساط الفقراء والعمال لرخصها ودسمها، فكان هؤلاء يرتادون مطاعم الپاچة فجرا لتناول الپاچة بوصفها فطور دسم يكفيهم ويبقيهم قادرين على مواصلة العمل حتى وقت المغرب. ثم انتشرت الپاچة وفُتحت مطاعم شهيرة متخصصة بها، وكان من أشهرها في الموصل پاچة أبو مزاحم برأس الدواسة وپاچة أتى في السوق القديم وپاچة أبو حامد برأس الجادة وپاچة السندباد في شارع حلب وپاچة الأندلس قرب جامعة الموصل. وأذكر أن كبار الشخصيات كانت ترد پاچة أبو مزاحم؛ ومنهم (علي صالح السعدي) نائب رئيس الوزراء آنذاك. وأذكر مرة أن زملائي في متوسطة (أم الربيعين) في الدندان عزموا مُدرس اللغة العربية المصري (محمد سعد ربيعة) على پاچة أبو مزاحم، وكان ذلك الأستاذ يُردد دائما (يا سلام ع پاچة).!
كما انتشرت وازدهرت محلات صنع الپاچة في مدن شمال العراق؛ وبخاصة في السليمانية حيث الأجواء الباردة شتاءا، ثم وصلت إلى بغداد، وشغف سكانها بها. ثم ارتقى مستوى الأكلة من الناحية الاجتماعية، وازداد عدد المولعين بها ليشمل الطبقة العليا من المجتمع البغدادي.
لقد فُتح أول مطعم پاچة ترتاده الطبقات المتوسطة والعليا في بغداد عام 1935 وكان يدعى (مطعم الحاتي) في منطقة الشيخ عمر، وكان من رواد هذا المطعم السياسي الأشهر في العراق نوري باشا السعيد فضلا عن العديد من السياسيين ورجال الفكر آنذاك.
https://www.youtube.com/watch?v=RUjoXE5yJ4Y
قصص واقعية وطرائف متعلقة بالپاچة:
لقد كان العديد من رجال الموصل مدمنون على تناول الپاچة صباحا في وجبة الإفطار، من أولئك المضمد الشهير السيد مجيد سيد حمو النُعيمي (1897-1987)، وهو من رموز الموصل في الزمن الجميل. وكان السيد مجيد معروفا بالكرم والسخاء؛ وكثيرا ما شوهد وهو يدفع الحساب عن من يأكلون بجواره. ولم ينقطع السيد مجيد عن تناول الپاچة حتى آخر أيامه، وقد عاش قرابة التسعين عاما.
وهناك أيضا الحاج قاسم الحلاق الذي كان يمتلك محل حلاقة في شارع غازي، وكان أفراد الجيش البريطاني يحلقون عنده ويجزلون له العطاء. وفي أحد الأيام، وبينما كان الحاج قاسم يحلق إنكليزيا، جاءه صديق عراقي وسأله: متى يأتي دوري في الحلاقة؟ فأجابه الحاج قاسم: (بعد هذا الحمار الذي بيدي). ولم يفهم الإنكليزي فحوى ذلك الكلام، ولكن أخذ يردده مع نفسه. وبعد خروجه ذهب إلى المترجم وعرف مضمون كلام الحاج قاسم. فأبلغ مسؤوله الذي أوصل الموضوع إلى القائد الإنكليزي الذي تحرى عن ذلك الحلاق وعلم أن له أخ لديه محل حلاقة بالقرب منه في شارع غازي. عند ذلك أصدر القائد الإنكليزي أمرا منع بموجبه الإنكليز من الحلاقة عند الحاج قاسم وأمرهم بأن يحلقون عند شقيقه محمد علي الحلاق. وكان لذلك الأمر آثار تدميرية على العلاقة بين الشقيقين، وهذا مثال واقعي على دهاء (أبو ناجي).
لقد كان الحاج قاسم الحلاق من المولعين بتناول الپاچة، وكان يلح بوضع الدهن. ذهب صباح أحد الأيام إلى پاچة چي مشهور في باب السراي، وطلب منه ماعون پاچة، ثم طلب منه أن يُدهنها له، فدهنها، ثم طلب منه مرة ثانية وثالثة ورابعة أن يُدهنها له، فما كان من پاچة چي إلا أن أخذ ماعون الپاچة وأفرغه فوق رأس الحاج قاسم الحلاق!! فأخذ يصرخ ويصيح، ثم هرول إلى المركز العام للشرطة القريب وسجل دعوة على الپاچة چي.
وعندما كنت أدرس الدكتوراه في مانشستر كنتُ مشهورا بين أصدقائي بمهارتي بالطبخ. وفي سنة 1983 زارني صديق عراقي بصحبة صديقته الإنكليزية قادمين من مدينة أخرى، وكان الصديق متلهفا للپاچة حيث أن المواد اللازمة لصناعتها لا تباع في المحلات ولا أثر لها في الأسواق.
فذهبتُ إلى القصاب الباكستاني الذي أتعامل معه وسألته عن كيفية الحصول على المواد اللازمة للپاچة (الرأس والأرجل و..)، فقال لي: يمكنني جلبها لك بشرط أن تأتي وتأخذها غدا لأن لا أحد غيرك يطلبها. أبلغتُ أصدقائي المقربون بدعوتي لهم لتناول الپاچة، وفرحو كثيرا وحضروا في اليوم التالي مبكرا، حتى أن أحدهم لم يتناول الإفطار لكي يأكل أكبر كمية من الپاچة.
وحان وقت الغذاء والجميع متلهفون للپاچة التي أخذت رائحتها المميزة تفوح في الأجواء، ثم ذهبتُ إلى مخبز قريب يعمل الخبز بالطريقة العراقية بالتنور، ثم عملنا المنسف ويعلو فوقه رأس الخروف. وما أن وصل موكب الپاچة إلى المكان المخصص وقد التفَّ حوله الأصدقاء والشابة الإنكليزية، حتى تفاجئنا بالشابة الإنكليزية وهي تصرخ وتؤشر بأصبعها على رأس الخروف الذي يعلو المنسف!! فقلتُ لها: ماذا دهاكي؟ قالت: الخروف ينظر إليَّ. وامتنعت عن أكل الپاچة وقالت: جميع الطعام العراقي أعشقه إلا الپاچة فإنها مخيفة!.
ويذكر الكاتب الأستاذ زيد خلدون جميل أن من القصص الطريفة التي تناقلتها أوساط المجتمع البغدادي، أن جدالا وقع في أحد مطاعم الپاچة بين زبونين، وتطور الأمر بسرعة إلى نزال للملاكمة، ثم تحول المطعم إلى ميدان للتراشق بالأحذية، وكل ما خف وزنه وسهل رميه بين الرجلين المتشاجرين، اللذين افتقدا مهارة التصويب، ما أدى إلى سقوط حذاء أحدهما في قِدر الپاچة، مثيرا استياء واحتجاج الحضور جميعا. فقرر أحد العاملين في المطعم البحث عن الحذاء في ذلك القِدر، فأخرج الحذاء ليعيده إلى صاحبه الذي بدت على محياه الدهشة والامتعاض، وضحك الجميع عندما قال صاحب الحذاء (هذا ليس حذائي)!.
3238 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع