كاظم فنجان الحمامي
عندنا في البحر حكمة قديمة تقول: السفينة التي فيها أكثر من قبطان تغرق في أول رحلة, وإذا كثر ربابنة السفينة جنحت وتاهت وفقدت مسارها..
ويقولون إذا كثر الخدم كثرت الشياطين, وإذا كثر الملح فسد الطعام, وإذا كثر الطباخون فشلت الطبخة..
ويقول الصينيون: القرية التي فيها أكثر من قاض ليست فيها عدالة ولا إنصاف, فما بالك بدولة يخضع شعبها إلى خمسة مستويات من القضاء: قضاء الدولة ومحاكمها, وقضاء العشيرة وسننها, وقضاء الدين وأحكامه الصارمة, وقضاء الأحزاب العقائدية المتشددة, وقضاء المجتمع وعاداته المتحجرة في ذاكرة الزمن. .
خمس شرائع تحكم المواطن العراقي وتتحكم به منذ زمن بعيد وحتى يومنا هذا, شريعة الدولة, وشريعة الدين, وشريعة الأعراف الاجتماعية العجيبة, وشريعة العشيرة, وشريعة المليشيات المسلحة ونزواتها الطائفية, حتى صار الناس فريسة سهلة تتجاذبها أطراف عدة, كل طرف يسعى لالتهامها كلها بمنطق القوة المفرطة, فإن لم ينجح فعلى الأقل يحظى بقطعة كبيرة منها, والطامة الكبرى ان بعض الشيوخ والزعماء والقادة يمسكون بخيوط التحكم لأكثر من سلطة, فيتلاعبون بنا شاطي باطي. .
في مثل هذه الأجواء القلقة نعيش مذعورين خائفين, لا ندري لأي السلطات نخضع, ولأيها نتبع ؟, سنن عشائرية ما أنزل الله بها من سلطان, وأنظمة حزبية تبيح لإتباعها ما لم تبحه النازية للجستابو, وفتاوى شرعية لا تمت للدين بصلة, وقوانين تأرجحت أحكامها بين فلتات النظام السابق وشطحات النظام اللاحق, ومعايير اجتماعية تنصر الظالم على المظلوم, وتؤازر الجاني على المجني عليه, وتعين القوي على الضعيف. . . .
صار المواطن العراقي يجد صعوبة بالغة في مواجهة التجمعات العشائرية, التي سلكت سلوكاً شاذا هذه الأيام في تعاملها الهمجي مع الناس, حتى انزلقت في مسارات متناقضة مع أبسط مبادئ العدل والإحسان, فتقاطعت مع الأعراف والقوانين, وطغت طغيانا عظيما في غياب العقوبات الرادعة, وأصبحت مصدرا من مصادر الإرهاب الاجتماعي. .
نسمع هذه الأيام بانتهاكات عشائرية لا يصدقها العقل ولا يقبلها المنطق, تتلخص بقيام بعض العشائر المتهورة باختلاق المشاكل ضد أبناء الطبقات الاجتماعية المسالمة بقصد ابتزازهم ماديا, وبهدف استنزاف مدخراتهم كلها لأسباب تافهة وأحيانا سخيفة, والطامة الكبرى إن هذه الممارسات الغريبة تتكرر يوميا أمام أنظار أعضاء المجالس المحلية, وأعضاء البرلمان, وأعضاء الكتل السياسية الكبرى, وتتكرر أمام أنظار رجال الدين ورجال القضاء ومنظمات المجتمع المدني, من دون أن يتصدى أحدهم لهذه الظاهرة الخطيرة, التي صارت تهدد الطبقات المتعلمة والمثقفة, وتطارد الأطباء وأساتذة الجامعات وأصحاب الكفاءات, وتحرج مدراء المؤسسات الإنتاجية والخدمية, فتحول (الفصل) العشائري من صيغته الإنسانية المدافعة عن الحق, إلى وسيلة للابتزاز يراد منها مصادرة ممتلكات الخصم الأضعف في التصنيف العشائري الجائر, وصار التعويض المادي من أساليب فرض الإتاوات بالقوة في تسوية الأمور الباطلة. .
المضحك المبكي إن سائقي الدراجات النارية في العراق لهم الحق المطلق في استثمار حوادث الطريق لصالحهم, ولهم الحق بمطالبة الغير بدفع التعويضات المالية بغض النظر عن حيثيات الحادث, وبغض النظر إن كان سائق الدراجة هو المعتدي أو المعتدى عليه, أو كان هو الجاني أو المجني عليه, أو هو الفاعل أو المفعول به, فهو في العراق صاحب الحق المطلق, ولا فرق بينه وبين بغلة ذلك القاضي الذي سمع القارئ يقرأ: (وما من دابة إلا على الله رزقها), فقال لغلامه: أطلق البغلة وعلى الله رزقها, فانطلقت على هواها تصول وتجول في الأسواق من دون رادع ولا وازع, ولسنا مغالين إذا قلنا إن بعض العشائر ناصرت أصحاب الدراجات النارية سواء كانوا ظالمين أو مظلومين, ووقفت معهم ضد ضحاياهم, بل طالبت الضحايا بدفع التعويضات لسائقيها المتهورين. .
نسمع في العراق باصطلاحات غريبة تتناقض مع أبسط مبادئ العدل والإنسانية, مجاميع تضغط على الضحية بذريعة استرداد (حق العشيرة), ومجاميع تدافع عن (حق الشرع) بتفويض رباني, ومنهم من ينبري للدفاع عن (الحق العام), ومنهم من يذود بالدفاع عن (حق الحزب) الذي ينتمي إليه, ومحاكم (شرعية) تخصصت بصناعة الموت, فأجازت القتل الفردي والجماعي على الهوية. .
ختاما نقول لا يجوز شرعا تولية أكثر من قاض في القرية الواحدة حتى لا يختلفون ويتقاطعون ويتداخلون ويتناقضون فيقع الظلم, وتتعطل الأحكام, وتتوقف المصالح العامة في تلك القرية, فما بالك بالبلد الذي تشتت فيه الأحكام الجزائية القاطعة بين العشيرة والدولة والحزب والمجتمع ورجال الدين ؟؟, فمتى تستقيم أمور الناس في بلد تحكمه أكثر من شريعة ؟؟.
1174 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع