الطاف عبد الحميد
مسكينة ( فهيمة ) فهيمة تفهم كثيرا على الرغم أنها نجت من حملة محو الامية الشهيرة في القرن الماضي بالابقاء على أميتها المتوارثة في الحفظ والصون ...
لم تكتب ( راشد يزرع وزينب تحصد) ككثير من الامهات العراقيات المسنات ، فهيمة كانت على موعد مع إحدى صديقاتها التي كانت تجاور بيتها المستأجر في محلة السجن في مدينة الموصل للذهاب معا ، غالبا ماتكون السرجخانة هي مقصدهما وهي سوق كبير يختص ببيع الملابس النسائية وملابس الاطفال ومستلزمات الزينة .
عصر ذات يوم إجتمعت العائلة في حديقة المنزل المحاطة بأشجار البرتقال يفترشون الارض فوق بسط من حصير النايلون المزخرف يتوسطه سماور يعمل بالنفط الابيض يعلوه إناء شاي من مادة الستيل ، سرى الحديث بين الحاضرين كما يقال بالمثل العامي ( من شيتان الى بيتان ) أحاديث لاتشكل بمجملها نفعا ولا تحدث فائدة ترجى ، كانت فهيمة تلوذ بالصمت ، وماكان صمتها من النوع الذي قال فيه الجواهري ( الصمت خير مإنطوى عليه فم ) بل كان صمت موقت لإحداث تأثير والوصول الى غاية ، فهيمة تتكلم مقاطعة الجميع : قبل شهرين ذهبت أنا ونجمة الى بلدية الموصل ، بعد أن علمت بأن البلدية ستخصص قطع اراضي بمساحة صغيرة لاتزيد عن40 مترا أو أقل كمقابر للراغبين لقاء مبلغ بسيط ، سددت المبلغ ، وقد تم تحديد الارض المخصصة لنا قرب مبنى الاذاعة والتلفزيون شرق الموصل ، وقمت بتسييجها بالحجارة والجلاميد المتيسرة في المكان وتقع على سفح مجرى لسيل ماء ترك أثرا محفورا في الارض ، ساد صمت لبرهة وقد حضر الموت ضيفا ثقيلا غير مرحب به ، وأصاب الجميع بالوجوم ، فهيمة تكمل حديثها : أريد أن يذهب أحدكم معي غدا للدلالة عليها ، الدنيا حياة وموت ، قلت يأمي لما هذا النكد ، كيف تتوقعين مني أن أذهب الى المقبرة لأرى مكان قبري قبل موتي ، لماذا تعرضيني للموت مرتين ، قالت : الموت حق والكل سيموت ، قلت أعرف هذا ، دعي الامر الى غيره ، طوينا الموضوع وعادت العائلة الى التناقش فيما لايثري ولا يغني .
تكرر الموضوع فيما بعد ، ولكن لاسميع ولا مجيب ... في الثامنة والستين من عمرها توفيت والدتي فهيمة بعد أن إستكملت أيامها بشكل مفاجىء في مستشفى المدينة بعد أن تم نقلها من الطابق الارضي الى الطابق الثاني بدون اوكسجين نتيجة عدم توفره في عام 1997 في اعوام الحصار الظالمة .
وقفت العائلة وقفة رجل واحد بنسائها ورجالها ، ترى من يحل لغز المقبرة ، ماتت فهيمة بإنتقالة سريعة الى جوار ربها تحمل سر الكنز المسمى مقبرة رحم الله أمي أدركت مالم ندركه ، وتبين لنا جميعا بأن الكليات التي تخرجنا منها لم ترتقي بنا الى أمية أمي ، وأدركنا أننا بحاجة الى راشد ليزرع والى زينب لتحصد .
4753 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع