الدكتور محمود الحاج قاسم
سارق الأكواب
( لله في خلقه شؤون ) قالها صاحب المقهى وأضاف ، بأنه يستقبل في مقهاه يومياً العشرات ذوي الأمزجة المختلفة من الزبائن .
يقضي بعضهم الساعات في الجلوس دون أن يحرك ساكنا ، ويحملق قلة منهم بالمارة من البشر والسيارات وكأنهم يحصونهم عددا ، وآخرون يقتلون الوقت بلعب الطاولة والدومينة ، والبعض يريح نفسه من عناء العمل بالثرثرة المفيدة أحياناً وغير المفيدة غالباً ، وهناك أفراد ممن لا يجد له ملجأَ للقراءة أو مشاهدة التلفاز فيقضي ساعات راحته إما بقراءة الجرائد والمجلات أو مشاهدة الأخبار وبعض المسلسلات .
وهناك أشخاص لا ينتمون لأي من المجاميع التي ذكرتها ، حيث ألاحظ لديهم تصرفات غريبة وغير مألوفة قد يسميه البعض بالشواذ ويسميه الأطباء مرضى نفسيون .
ومن هؤلاء السيد سالم صاحب الهندام الجيد والذي أصبح يتردد يومياً على المقهى منذ قرابة الشهر في موعد لا يخلفه ، وبعد أن يلقي السلام يجلس بكل وقار وحيداً وبعد أن يشرب الشاي يبقى لساعات يجول ببصره بالسابلة دون أن يكلم أحداً وفي ساعته المحددة يقوم مودعاَ بكل أدب واحترام ودون ارتباك .
واستطرد صاحب المقهى قائلاً وفي أحد الأيام أخبرني عامل المقهى بأنه لاحظ بأن عدد أكواب المقهى أصبحت تنقص كل يوم كوباً خلال بضعة أيام . . . قلت له لعلك تكسرها وترميها ... أقسم بأنه لم يقم بذلك ... لم أعر للأمر أهمية وقلت له لديك في المخزن أكواب أكمل النقص ، وفي اليوم التالي والذي بعده تكرر الحال . عندها أخذت الأمر على محمل الجد ، فأخذت أراقب رواد المقهى ، وأوصيت العامل أن يراقب بدقة ومن دون أن ينتبه أحد .
وبعد أيام وجهد جهيد ، اكتشفنا السارق ... واستغربت أن يكون الرجل الوقور صاحب الهندام الجيد السيد سالم يقوم بذلك ، حيث لاحظناه أنا وعاملي بعد أن يكمل شرب الشاي يلف الكوب مع الطبق والملعقة بمنديل ورقي ويضعه في جيبه دون ارتباك وكأنه يقوم بعمل اعتيادي .
وأردف صاحب المقهى قائلاً استغربت كثيراً ولكنني لم أكلمه لأنني وفي قرارة نفسي قلت بأن وراء هذا العمل سراً لابد من كشفه . ولما قام صاحبنا مودعاً أوصيت العامل أن يتعقبه ويحاول أن يعرف داره ، ومن يكون بغية الوصول لحل هذا اللغز .
مشى السيد الوقور ومشى العامل خلفه من دون أن يحس به ، وبعد هنيهة توجه صاحبنا في سيره باتجاه الجسر الحديدي القريب ، سار على الجسر والعامل يراقبه عن بعد ، وما أن وصل منتصفه حتى مد يده في جيبه وأخرج المنديل الورقي وبكل هدوء رمى الملعقة في دجلة أولاً وأخذ يحملق في النهر وبعد أن زالت حلقات الماء من سطح النهر رمى الطبق وانتظر قليلاً وعيونه شاخصة في محل سقوط الطبق ، وبعد أن زالت الحلقات رمى الكوب ، عندها كانت الحلقات أكثف واستمرت ثواني أكثر ... وامتد به الوقت وهو غارق بفكره وبصره في هذا المشهد الذي يتكرر أمامه . . موجات تأتي وراء موجات ذهبت . . وبعد هنيهة أكمل مسيره وكأن شيئاً لم يكن وبعد أن وصل نهاية الجسر قفل راجعاً من الجهة الأخرى للجسر وبعد الجسر دلف أحد الأزقة والعامل وراءه وبعد أن وصل داراً ظاهره ينم عن كون أصحابه من الميسورين .هم بالدخول إلا أنه وقبل أن يدخل الدار التفت فوجد عامل المقهى وراءه ... عرف أن أمره قد انكشف ، لم يعد سالم بعدها إلى المقهى ، ومنذ ذلك اليوم لم تنقص الأكواب .... ترى أكان اكتشاف أمره دواءً شافياً له من ذلك المرض النفسي أم أن مرضه دفع به إلى الانتقال لمقهى آخر يمارس فيه هواية سرقة الأكواب ورميها في دجلة ؟ علم ذلك عند ربي .
3700 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع