د. محمد عياش الكبيسي
ما يجري اليوم في مصر لا يمكن اختزاله في الصراع التقليدي بين التيار الإسلامي والتيار العلماني داخل مصر ومحيطها العربي والإقليمي والذي مرّ بتقلبات كبيرة وأزمات حادّة كان من نتائجها تعليق عدد من رموز الإسلاميين على أعواد المشانق ومنهم سيد قطب وعبدالقادر عودة إضافة إلى ما تعرّض له الكثيرون من أصناف التعذيب داخل السجون العلنية والسرية، وربما لا يبعد عن هذه الأجواء الاغتيال المبكر لمؤسس جماعة الإخوان حسن البنا رحمهم الله.
ولذلك فإن ما يجري اليوم على يد العسكر يستدعي كل تلك الصور المخزونة في الذاكرة مما يولّد حالة من القلق وفقدان الثقة ينذران بتداعيات أكثر سخونة وخطورة، إلا أن كل هذا ينبغي أن يقرأ في المشهد الأوسع والتطورات الكبرى التي حصلت على المستوى العربي والإقليمي والدولي.
في سوريا كانت الثورة تتسم بقدر كبير من الخطاب المعتدل والسياسات المرنة في مواجهة نظام ديكتاتوري بشع وآلة عسكرية وأمنية موغلة في الجريمة وانتهاك كل الحقوق الإنسانية والكرامة الآدمية، وكان العالم كله يترقب الموقف الغربي والأميركي بشكل خاص، وكلما طالت المعاناة أكثر كان هذا الموقف يتسم باللامبالاة حتى مع إعلان روسيا وإيران وحزب الله عن دخولهم في المعركة إلى جنب بشار بشكل أو بآخر، وظل هذا الموقف يشكل لغزا غير قابل للحل لدى الكثير من المراقبين، لكن بعد إعلان أمير (دولة العراق الإسلامية) عن ضمّه للشام كولاية ملحقة بدولته، ومسارعة جيش النصرة لمبايعة أيمن الظواهري، ثم المصادمات التي حصلت بين (الدولة) والجيش الحر من جهة، وبين الدولة والقوى الكردية السورية من جهة أخرى، أصبح تحليل الموقف الغربي أسهل بكثير من ذي قبل.
في العراق كان الإخوان المسلمون أكثر مرونة و(اعتدالا) في تعاملهم مع ملف الاحتلال الأميركي، وقد كانت قراءتهم الموضوعية لتوازن القوى والخطر الشرقي القادم قد دفعتهم للمشاركة المبكرة في العملية السياسية، وقد دفعوا بخيرة رموزهم وقادتهم في هذه المجازفة الكبيرة، إلا أن الأميركيين تعاملوا مع هؤلاء جميعا بقدر كبير من اللامبالاة، حتى إن الحاكم الأميركي بول بريمر قد تعمد بشكل لافت للنظر أن يتجاهل كل هؤلاء وكأنهم خارج الميدان، فكل مذكراته تدور حول لقاءاته وحواراته مع القادة الشيعة ومراجعهم ثم القادة الكرد وربما بعض الشخصيات العلمانية المستقلة، أما الإسلاميون السنّة فكأنهم كانوا ضيوفا ثقلاء وغير مرغوب بهم، وقد كانت سياسة الأميركيين واضحة في حرمانهم من أي مكاسب أو إنجازات وذلك بغية إضعافهم وإحراجهم أمام حاضنتهم الشعبية، بل وصل الأمر إلى إهانة الدكتور محسن عبدالحميد من قبل الجنود الأميركيين، ثم تطوّر الموقف إلى سياسة الملفات الكيدية ومحاكمتهم كمجرمين وإرهابيين! ولقد كانت النتيجة المتوقعة هي دفع المزيد من الشباب السنّي للالتحاق بفصائل المقاومة، وكلما كانت وطأة الأميركيين على المكون السنّي أشد كلما كانت ردة الفعل أشد أيضا وهو ما مهّد الطريق لتوسيع دائرة المتأثرين بفكر القاعدة وأسلوبهم في العمل مما قاد إلى إعلان (دولة العراق الإسلامية) وهذا كان على حساب المشروع السياسي بل وعلى حساب المقاومة الإسلامية والوطنية المعتدلة.
إن الذي يجمع كل هذه الخيوط والمشاهد المجزّأة يصل إلى نتيجة أن الأميركيين يعتمدون سياسة ممنهجة وهادفة إلى دفع الشباب السنّي للكفر بكل الحلول (الناعمة) والاتجاه إلى زاوية واحدة ومحددة لا تعرف إلا لغة السلاح والدماء، وقد لا تكون مصر بمنأى عن هذه النتيجة مهما بلغت حكمة الإخوان هناك، إذ إن الانفعالات العاطفية الممزوجة بالغضب والشعور بالظلم لا يمكن أن تخضع إلى ما لا نهاية لمقولات الحكماء والعقلاء.
لقد كذب الأميركيون على العراقيين بوعودهم (الديمقراطية) فأسسوا لحكم (ثيوقراطي) طائفي منغلق تقوده المرجعيات (الصامتة)، وها هم اليوم يكذبون في ترحيبهم بالربيع العربي واستعدادهم لدعم التجارب الديمقراطية.
منذ سنوات ونحن نقرأ في (وثيقة كامبل) والتي أطلق سراحها مؤخرا بعد أن كانت حبيسة الملفات السرية والتي تقسّم العالم إلى ثلاث مناطق (منطقة الحضارة الغربية المسيحية) ومنطقة الحضارة الشرقية في الصين واليابان (المساحة الصفراء) ومنطقة الحضارة الإسلامية (المساحة الخضراء) حيث تحدد الوثيقة استراتيجية التعامل مع المنطقة الصفراء بالاحتواء في دائرة التنافس الاقتصادي والتكنولوجي، أما المساحة الخضراء فهي دائرة الصراع والتي تقضي بإبقائها تحت سقف التخلف وعدم السماح لها بامتلاك مؤهلات النهوض، وكنا نظن أن هذه الوثيقة مجرد مخرج من مخرجات (ثقافة المؤامرة) التي تنتشر عادة في المجتمعات المتخلفة والأمم المغلوبة، إلا أن السياسة الأميركية في العراق وسوريا ثم في مصر تمنح قدرا كبيرا من المصداقية لبنود هذه الوثيقة.
إنهم بهذه السياسية سيحققون جملة من الأهداف أهمها:
أولا: محاصرة الدعوة الإسلامية، وتحصين المجتمعات الغربية التي بدأت تتأثر بشكل واضح بالطروحات الإسلامية خاصة في مجال العقيدة وعلاقة الإنسان بالعالم الغيبي، حيث لم تصمد عقيدة التثليث والفداء اليسوعي أمام عقيدة التوحيد ونظرة الإسلام للكون والحياة وعلاقة الإنسان بعالمي الغيب والشهادة، وقد أثبت الواقع تميز العقيدة الإسلامية وقدرتها على الإقناع حتى لبعض رجال الكنيسة، وهذا لا شك يمثل مصدر قلق للكثير من الساسة الغربيين واللوبيات الداعمة لهم، وعليه فإن الانتقال من لغة الحوار إلى لغة السلاح من شأنه أن يحجم هذه الظاهرة، خاصة أننا لا نملك من السلاح إلا ذلك الذي يؤذي المواطن البسيط في الغرب، وهذا ما حصل بالفعل عبر تفجير محطات المترو وطائرات النقل العام وربما المطاعم والأسواق!
إن هناك صورتين فقط ينبغي أن تترسخا في ذهن الإنسان الغربي عن الإسلام؛ صورة الشيعة وهم يلطمون صدورهم ويسفكون دماءهم حزنا على الحسين، وصورة السيارات المفخخة و(المجاهدين المفخخين) للجماعات السنّية المتطرفة وهم يفجرون أنفسهم في أماكن العبادة والأسواق الشعبية ومحطات النقل العام، وهذا يكفي للتشويش على كل ما يردده الإسلاميون من مقولات (الرحمة العالمية للإسلام) ومنهجية الإسلام في (الموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن).
ثانيا: حرمان الإسلام من المشاركة أو المنافسة الحضارية، فرغم الواقع المرير الذي تعيشه الدول الإسلامية، إلا أن المسلمين تمكنوا من تقديم تجربة قابلة للنمو والتطوير خاصة في مجال البنوك والمصارف وكذلك الأعمال الخيرية المختلفة، بل قدرة المشروع الإسلامي على صناعة النموذج الناجح في تركيا وربما ماليزيا أيضا، ولا شك أن صعود الجماعات الإسلامية المتطرفة سيحاصر هذه التجارب ويربكها.
ثالثا: تحطيم النسيج المجتمعي للشعوب الإسلامية، ذلك لأن ثقافة العنف لن تقف عند حد أو ضابط، فهي أشبه بالسلاح الذي يضرب بكل الاتجاهات، وما يحصل في العراق اليوم حقيقة هو تجسيد واقعي لهذه المخاوف (حتى لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل)، والخشية كل الخشية أن تنتقل هذه العدوى إلى سوريا أو إلى مصر بشتى التبريرات المريضة والتي لن تكون إلا لصالح التنافس الإسرائيلي الإيراني على التمدد في هذا الفراغ الواسع والمغري ضمن حدود السقف الأميركي المفروض على الجميع!
إذا تحققت هذه الأهداف الثلاثة -لا سمح الله- فإن العالم الإسلامي سيكون خارج التاريخ وربما خارج الجغرافيا أيضا، وسيكون هنري كامبل رئيس الحكومة البريطانية الأسبق مطمئنا وهو في قبره أن مقرراته قد نفّذت بالكامل ولو بعد عقود من الزمن وبمشاركة المسلمين أو الإسلاميين أنفسهم
869 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع