إبراهيم الزبيدي
لم يشهد العراق في طول حياته السياسية مثل ما يعاني منه اليوم من انكسار وانحدار في المقاييس والمفاهيم والسلوك كما يحدث اليوم.
فبعد أن كانت الجماهير العراقية تنتظر، فور سقوط النظام السابق، أن تخرج أجيال جديدة من السياسيين قومتهم الديكتاتورية ونظفت نفوسهم وقلوبهم، وجعلتهم أكثر إصرارا على إقامة نظام سياسي واجتماعي واقتصادي عادل وعاقل يعوضها عن معاناتها السابقة، ويعكس رقي هذا الشعب وأصالته، وجدت أن ما حدث هو العكس. فقد تحولت الحياة السياسية العراقية إلى سوق هرج حقيقي يباع فيها المرشح النيابي ويشترى بحفنة دراهم مُستَحصلة من رجال أعمال عرب وأجانب ذوي نوايا حسنة نحو العراق وأهله، أو من أجهزة مخابرات تغدق على بعض تجار السياسة العراقيين لغرض في نفس يعقوب قد يكون نبيلا وقد لا يكون.
إن الذين يصنعون السياسة عندنا اليوم، ويتحمكون بمفاصلها، ويوجهون أشرعتها، ويفسدون ربابينها، سماسرة محترفون متمرسون في ابتزاز أثرياء الخليج مستغلين مخاوفهم من تمدد النفوذ الإيراني في العراق، ورغبتهم في إيجاد معادل سياسي عراقي قادر على تحقيق توازن بين سنة العراق وشيعته في البرلمان العراقي القادم، تحسبا لاحتمالات المستقبل الغامض الذي ينتظر المنطقة، خصوصا بعد رفع العقوبات عن إيران وانتعاش علاقاتها الدولية على حساب دول الخليج بشكل خاص.
ولأن أثرياء الحروب الطائفية العراقية المفتعلة يعرفون جيدا أهمية الإعلام وخطورة دوره فقد أصبح من كمال الهيبة والوجاهة أن تكون لكل منهم فضائية، حتى لو كانت دكان عطارة لا علاقة له بالإعلام من قريب وبعيد، كل مهمتها حرق البخور لصاحبها، وضخ أخبار سفراته وتصريحاته وبياناته، وتمجيد مكرماته التي يتشبه فيها بصدام حسين ومعمر القذافي ونوري المالكي.
حتى تحول الصراع فيما بينهم على أموال الخليجيين إلى قتال محموم على أمواج الإذاعات وشاشات الفضائيات وقاعات مراكز البحوث التي لا تكتمل الوجاهة بدونها. ولا تخلو إذاعة ولا فضائية من دس هنا ونغز هناك من أجل تشويه سمعة منافس أو تكسير عظامه وقطع رزقه من دول الخليج.
فهذه تدق عنق أسامة النجيفي وتلك تدوس على رقبة رافع العيساوي، وأخرى تغرز خنجرا مسموما في ظهر صالح المطلق، والمطلق يرد بألاشد والأقبح، وأخرى تهمس بإشارات خجولة عن سرقات فلان وفساد علان، رغم أن صاحبها الوزير متهم بالاختلاس هو نفسه وملاحق من هيئة النزاهة.
يجري هذا كله باسم الطائفة بشعارات الرحمة بفقرائها، وإنصاف مظلوميها ومنتفضيها وحراكها. ورغم أن المالكي لفلف الحراك واقتلع خيمه كلها في ليلة واحدة، إلا أنهم ظلوا، رغم ذلك، يتغنون به، ويهددون بثاراته وصموده، و(لن ننساك يا فارس الحراك).
إن ما كان يحدث أيام الحشاشين الإسماعيليين النزاريين الذين انفصلوا عن الفاطميين في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر ميلادي، أنهم كانوا يسطون على أموال الأغنياء لينفقوه على الفقراء، بحق وحقيق.
لكن الذي يحدث اليوم في العراق، وفي المناطق الغربية بالذات، هو أن الحشاشين العراقيين الجدد يسطون على أموال الخليجيين ودنانير الوزارات العراقية الواقعة في أحضان الحبايب زلم أحد الشطار السبعة، بحجة الدفاع عن السنة، وبذريعة تشجيع المعتصمين على الاستمرار في الصمود، يكسبون بالملايين ولا ينفقون على المنتفضين إلا ملاليم، ولكنهم لا يبخلون على تدبير المؤامرات، وتلفيق التحالفات، وترتيب الشراكات، بعيدا عن مصالح الوطن الحقيقية وأهله المساكين.
والثابت أن المواطنين السنة لم يصلوا إلى هذا الدرك من الفقر والذل والتهميش والترهيب والتقتيل إلا بسبب عبث الوزراء والنواب السنة المتحاصصين أوالمتخاصمين مع المالكي على قدر مكاسبهم الشخصية والحزبية والعشائرية وحدها لاغير.
فلولا هؤلاء النافخون في النار، والعائشون على مصائب أهلهم وذويهم، والمتكالبون على الوجاهة، والمتسابقون على امتلاك القصور والحواشي والمرتزقة، لكانت الطائفة السنية في أفضل حال ولجنحت للسلم تفاهمت مع المكونات العراقية الأخرى بالتي هي أحسن، وتعايشت كما كانت، وكفى الله المؤمنين القتال.
مؤكد أن المالكي وإيران وأمريكا في حاجة ماسة إلى هؤلاء لا إلى سياسيين متحضرين، صادقين، وشجعان، تواريخهم مشرفة، عقلانيين، نزيهين وغير مرتشين.
فمن الذي أعطاه العذر والمبرر وشجعه على اقتحام الرمادي والفلوجة غير هؤلاء المنافقين وهتافاتهم المملة الممجوجة عن الحراك والصمود، وتحريضهم على قتل الجنود وتقطيع أوصالهم على شاشات التلفزيون؟
ومن يراقب جولات هؤلاء بين عمان وأربيل ودبي وطهران وبيروت والقاهرة ولندن وواشنطن، ولقاءاتهم المحمومة، هذه الأيام، ونحن في بداية سوق عكاظ الانتخابات القادمة، يدرك أن كل واحد من خياطي القوائم والائتلافات الانتخابية هؤلاء يسابق رفيقه الآخر على شراء المرشحين في مزادات علنية غير مستورة، لا حبا بانتخابات، ولا رغبة في ديمقراطية، ولا لخلق توازن بين الطائفتين في البرلمان القادم، كما يزعمون، بل فقط من أجل (تفويز) هذا (التابع) أو ذاك، ودفعه إلى هذه الوزارة أو تلك، لكي يسدد، فيما بعد، ما بذمته من ديون لراعيه المستتر (المبني للمجهول)، من أموال وزارته وعقودها ومقاولاتها. يعني أن العملية تجارة في تجارة، وشراء أسهم رابحة في سوق البورصة السياسية العراقية الفالتة.
يعني أن هؤلاء لم يفسدوا الإعلام العراقي وحده ويحرفوه عن رسالته المقدسة، ولم يُبطلوا دوره في تصحيح المسيرة وإعادة اللحمة إلى الصف الوطني، ولم يخربوا الحياة السياسية العراقية ويجعلوها مسخرة، بل هم جعلوا حياتنا كلها سوق مزاد علني يباع فيه الوطن نفسه، أرضا وشعبا، بلا خوف ولا وجل.
والخوف الخوف من أننا سنبقى ندور في هذه الدائرة المغلقة، تتقاذفنا أيدي هؤلاء الشطار وأقدامهم وأموالهم وحراسهم وحماياتهم وخطباؤهم وكتابهم، زمنا قادما طويلا جدا، إلى أن يستفيق الناخب العراقي ويمتلك قراره الحر والنزيه ويقلب الطاولة على جميع هؤلاء، تجار القوائم والائتلافات والتيارات الخائبة، وإلى أن يفيق أثرياء الخليج ويكتشفوا أن أموالهم التي يخرجونها لعمل الخير للعراق والعراقيين تصبح بابا من أبواب الشر ومرتع فساد وخراب.
4758 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع