د. علي محمد فخرو
مالم يع مواطنو المجتمعات العربية، الراغبون والمناضلون من أجل الانتقال من أنظمة الاستبداد إلى أنظمة ديموقراطية، مالم يعوا أهمية وحساسية وتعقيدات مرحلة الانتقال تلك فان العديد من ثورات وحراكات الربيع العربي إما ستدخل نفسها في فوضى مأساوية دامية تدمر المجتمع أو ستنتهي إلى التيهان والضياع وبالتالي الفشل. ولا يحتاج الإنسان إلى كثير من الجهد ليرى كلا المشهدين ماثلين حاليا بقوة في أرجاء أرض العرب.
أمثلة الانتقال السلمي العقلاني المتسامح المؤمن بالأخذ والعطاء لتجنب الخراب والدماء ماثلة للاستفادة من أساليبها وتطبيقاتها. ففي ايرلندا الشمالية قبلت التضحية بمبدأ الأغلبية الديموقراطية من أجل استتباب السلام بين الطائفتين المتناحرتين. وفي أفريقيا الجنوبية قبل المواطنون السود بتأجيل مبدأ صوت واحد لكل مواطن من أجل الخروج من صراع عرقي مقيت وعدم هروب اموال البيض الاستثمارية الى الخارج والأخذ بمبدأ اعتراف الظالمين السابقين بديلا عن محاكمتهم المليئة بالاخطار.
وفي اسبانيا وتشيلي قدمت سلامة كيان الجمهوريتين على مبدأ الثار من الظالمين السابقين.
تفاصيل مناقشات وتبريرات ونتائج تلك المساومات من أجل فترة انتقالية سلمية هادئة منشورة لمن يريد قراءتها. لكن من المهم معرفة ان تلك التنازلات والحلول الوسط لم تعن التنازل في المستقبل المنظور عن الرجوع الى الأسس الديموقراطية المعروفة وتطبيقها في حينها. لقد كانت تضحيات وتنازلات مؤقته من أجل فترة انتقالية متسامحة متوازنة غير دموية وغير عبثية.
على ضوء تلك التجارب واعجابا بمنطلقاتها العقلانية المتوازنة المدركة لأهمية الاولويات لا يستطيع الانسان الا ان يحيي ويرحب بالتجربة التونسية العربية وهي تبدع مختلف الاساليب لنقل القطر التونسي من جحيم الاستبداد السابق الى رحب الديموقراطية في المستقبل المنظور. لقد فضل شعب تونس وساسته ومؤسساته المدنية، ابان الفترة الانتقالية سيادة مبادئ السلم الاهلي وتوازن المصالح والتعامل العقلاني مع اشكالات الواقع والتأجيل المؤقت لبعض المبادئ الديموقراطية، وذلك من اجل الانتقال السلمي لثورتهم المبهرة المباركة إلى بر الامان.
كما لايستطيع الانسان الا ان يأسف، بألم وحيرة واشفاق، لوقوع البعض الآخر في شباك مشاعر الثأر والانتقام الفجة وأساليب تهميش واستئصال هذه الجماعة او تلك. والنتيجة هي تلك المشاهد العبثية الطفولية الدامية المدمرة للحاضر والمهددة للمستقبل، التي نشاهدها يوميا في هذا القطر العربي او ذاك.
لماذا يختلف المشهد التونسي، على الأقل في الحاضر، عن بقية المشاهد؟ هذا سؤال يحتاج الى اجابة غير متعجلة ومدروسة بتأن وموضوعية. وكما اصبحت ايرلندا الشمالية وافريقيا الجنوبية واسبانيا وتشيلي مصادر دروس وعبر فن تونس مرشحة لان تكون مثالا عربيا لأمة العرب وللعالم.
في اعتقادي اننا سنكتشف جوانب ايجابية ودروسا مفيدة في تحليل المزاج السياسي التونسي، في نضج مؤسسات المجتمع المدني التي قامت في المجتمع التونسي بالرغم من الاحتلال الاستعماري والاستبداد المحلي، في تأثيرات الجاليات التونسية القاطنة بلدان اوروبا ذات الامزجة الديموقراطية على المواطن التونسي وفضائه العام، في مكانة المرأة التونسية في الفضاء العام، وقد يكون في الانظمة التعليمية والنقابية والاعلامية والفقهية والفكرية، وغيرها، المهم اننا امام حالة عربية تستحق ان تدرس، والمهم ان لايمنعنا صغر حجم تونس الجغرافي والسكاني او محدودية تأثيرها في المجال القومي او هدوء جبهتها الاعلامية من الاقدام على تلك الدراسة وتقديمها كاحد الصور الاجتماعية العربية المبهرة. وهذا لن يبخس الآخرين ولن يقلل من مكانتهم في حقول حياتية كثيرة ولن ينسينا الانجازات الرائعة في قيادة هذه الامة التي حققتها بعض الاقطار العربية الاخرى عبر التاريخ.
من الضروري التأكيد على ان التعامل مع الفترة الانتقالية بتلك الاشكال المتنوعة، من اجل الحفاظ على السلم الاهلي او على كيان الدولة او على تجنب الدخول في جحيم الثأر والانتقامات المتبادلة او على تجنب حدوث اضرار اقتصادية جسيمة، ان ذلك التعامل لا يعني على الاطلاق التنازل عن اهداف الثورات والحراكات الحقوقية والديموقراطية والمعيشية، فتلك اهداف مقدسة يجب ان تتحقق كاملة حين وصول الثورات والحراكات الى بر الامان. وهذا في اعتقادي ما تحاول ان تفعله ثورة تونس المباركة.
لقد ضربت تونس المثل المبهر في تفجير ثورات الربيع العربي وفي ابتداع أسلوب معقول لانتقال الثورات الى بر الامان. تحية إلى شعب تونس الذي خدم ويخدم ربيع أمته العربية بأساليب حضارية إنسانية.
842 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع