د. نسرين مراد
تتمتع الشعوب العربية بخاصية فريدة من نوعها، تتمثل في سهولة إذكاء حرب بين مكونات الشعب الواحد فيها. تُستخدم في ذلك ورقة التفرقة، التي تعتمد أصول المكونات العرقية أو معتقداتها الدينية والمذهبية، أو اختلافات أصولها الجغرافية وأيديولوجياتها السياسية.
الإنسان العربي عموماً، سهل الاستثارة في اتجاه المواجهة والحرب مع بني جلدته. لا يختلف كثيراً عن الأقوام الجاهلية القديمة، التي ظهرت فيها حروب عبثية طويلة، مثل حرب البسوس، وداحس والغبراء. الطبقات السياسية العربية معروفة بالميل للاستقواء بأية قوة خارجية، ضد ند أو خصم لها في الداخل. يستغل الخارجي أو الأجنبي هذه الظاهرة لتطبيق أجندة شيطانية، من دون بذل كثير من الجهد أو التضحية بالكثير من جانبه. تصبح الشعوب العربية وقوداً سائلاً لتلك الأجندات والمشاريع.
للحروب الأهلية العربية نوعان؛ باردة وساخنة، أي مشتعلة. الحرب الباردة تمتاز بالاستمرار في التعبئة والشحن الفكري والعاطفي، لصالح فئة ضد أخرى. هذه قد تمتد لعشرات ومئات السنين، فيها تظل الأطراف منشغلةً بتعبئة أتباعها لأقصى فترة زمنية ممكنة، حتى إذا ما حلت ساعة الصفر وتهيأت الظروف الميدانية، تنطلق الكتل الجماهيرية المعبأة، بعد تجهيزها بالسلاح القتالي الفتاك من أي مصدر كان. تستمر الحرب الساخنة لتقضي على الأخضر واليابس، بدوافع انتقامية تعبر عن أنفس جاهلة ولا تتمتع بالحد الأدنى من التفكير العقلاني السليم. الجماهير العربية وقياداتها العقائدية والسياسية، ميالة على الدوام في اتجاه الحسم العسكري مهما تكن التكاليف.
ظاهرة إشعال الحروب الأهلية بدأت حديثاً منذ نهاية القرن العشرين، حين أيقظت الثورات في المنطقة حالة غبن تعيشها فئات عريضة في الدول العربية الحديثة. الأنظمة السياسية التقليدية العربية، لم تقم بإنجاز الحد الأدنى من الفكر الديمقراطي، ولم تسمح لمكونات المجتمعات المختلفة بالتنفيس عن الاحتقان السياسي والعقائدي والإثني لديها. بذلك عملت تلك الكتل التي تشعر بالغبن، مثل قنابل موقوتة، أيقظها مرور ربيع التغيير العربي عليها؛ مع إضافة نكهة من التدخل الخارجي. صارت ظاهرة انتشار الحروب الأهلية مثل مشاريع يُخطَّط لها في الخفاء، بدلاً من أن تكون مشاريع تحرُّر حقيقية، تخدم كافة مكونات المجتمعات الثائرة أو المنتفضة أو المتمردة!
لا تلوح في الأفق بوادر أو معطيات، تشير إلى قرب حل للأزمات العربية يؤدي إلى أي انفراج. لا بل إن كل مشروع حرب له أنصاره وأتباعه ووسائل إعلامه ومواده التفجيرية. هنالك مشروع عام واضح يتجه نحو صوملة الأوضاع العربية، في كل قطر ثار أو انتفض أو تمرد على حكامه. الشعوب العربية منشغلة، بل غارقة في حروب من نوع البسوس، وداحس والغبراء. قياداتها لا تأبه لحشود اللاجئين والنازحين والقتلى والجرحى والخسائر الهائلة في الممتلكات والثروات الوطنية، المرحلية والاستراتيجية.
المدن والبلدات العربية أولى ضحايا الحروب الأهلية العربية. ما على المستطلِع إلا أن يمر بالمدن والبلدات العراقية والسورية والليبية، وبدرجة أقل نظيراتها في الدول العربية الأخرى التي مر بها ربيع التغيير حتى الآن. الثروات العربية هي الضحية الأخرى، وفي مقدمتها البترول العربي الذي يشكل العمود الفقري للاقتصاد العربي الحديث.
القوى البشرية العربية هي الضحية الأخرى، وتمثل كافة فئات وشرائح وطبقات المجتمعات العربية. ينتشر الفقر والجهل والبطالة بشكل غير مسبوق، لا تاريخياً ولا دولياً حديثاً. الحضارة والقيم والمبادئ والعقائد في المنطقة، باتت في خطر مهب رياح التغيير. الإنسان العربي الآن يبحث عن لقمة عيش، تأتيه من أكثر المصادر والأماكن استهانةً بقواه النفسية والعقلية والمعنوية والحضارية. القيادات والشعوب العربية مطالَبة، وأكثر من أي وقت مضى، بالبحث عن مخرج من هذا الواقع أو المستنقع الذي وقعت فيه.
لا يعني ذلك الاستهانة بما أُنجز حتى الآن في مسارات ربيع التغيير العربي المختلفة. أهم تلك الإنجازات هو التخلص من أنظمة مستبدة، لا تعرف أي معنى للديمقراطية واحترام حرية الشعوب، أفراداً وجماعات وشرائح وكتلاً اثنيّةً.
410 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع