د. علي محمد فخرو
على شبكات التواصل العنكبوتية العربية تنتشر كتابات النادمين واليائسين ومثبطي العزائم. منهم من يبكي تحطم أحلام جيله القومية في قيام الوحدة العربية وفي تطبيق مبادئ الاشتراكية وفي حرية الأوطان وفي النضال الشعبي العربي الواحد.
ومنهم من وصل الى حافة اليأس من امكانية تحقيق أي إصلاح في مجتمعات العرب المتخلفة الموبوءة بأمراض الطائفية والقبلية والتزمت الديني.
ومنهم من يريد أن ينقل قنوطه وتعب ذاته وضياعه الى أجيال المستقبل، وبالذات شباب ثورات وحراكات الربيع العربي.
والمحصلة أن جميع هؤلاء يريدون ادخال الأمة في دوامة النقد العاطفي السلبي العبثي للماضي والحاضر، بدلا من ممارسة النقد الابداعي الموضوعي المحفز والمجيش لقوى الأمة والمشجع على السير في الدرب النضالي الطويل، دون اضاعة للوقت بلطم الخدود وذرف الدموع، والبكاء الطفولي المعيب على فرص مبشرة كبرى ضاعت لأننا لم نحافظ عليها كالأناس الناضجين العاقلين.
بصراحة تامة ليس الآن أوان مثل تلك الكتابات، واذا كان اصحابها قد تعبوا من المشي في دروب النضال الصعبة، وانطفأت في داخلهم أنوار الاصرار على مقارعة مظالم الحياة العربية فليخرجوا من تلك الدروب، وليجلسوا تحت ظلال شجر القنوط والاستكانة بانتظار تعفن أرواحهم البطيء.
ذلك أن الأمة لا تحتاج في ساحات معاركها الحالية للنائحين المولولين، وانما هي بأشد الحاجة لمنشدي أناشيد النصر الآتي، طال الزمن أو قصر، ولعازفي سيمفونيات القدر المجلجل الذي يدق على الأبواب بيد شباب القوة والشجاعة والاستهانة بالسجون والتعذيب والموت على يد الطغاة الظالمين.
بعد هذه المقدمة، وهي نقد واشفاق ورجاء، دعنا نطرح الأسئلة التالية:
ما الذي يجعل من هؤلاء نائحين يائسين ومتعبين؟ أهي العثرات والانتكاسات، بل وحتى الهزائم، التي حلت في هذه الساحة أو تلك من ساحات ثورات وحراكات الربيع العربي؟ فماذا كانوا ينتظرون؟ أن تكون مسيرة الثورات وحراكات التغييرات الكبرى نزهة ولبنا وعسلا، لذة لغير المضحين الفاعلين؟
الجواب عن تلك الأسئلة واضح مدو في تاريخ انتفاضات البشرية الكبرى عبر القرون. لم توجد قط ثورة أو حركة تغيير كبرى دون آلام وأثمان مدفوعة وصعود وهبوط وانتصارات وهزائم وفترات قنوط وساعات أمل. واذن فلماذا الخاصية المحبطة المضعفة التي يراد الصاقها بالعرب دون سائر البشر؟
ثم، هل الربيع العربي شجرة لا جذور لها ولاتربة؟ أليست ممتدة في نضالات التاريخ البعيد ضد مظالم الملك العضوض وزبانيته ومرتزقته، ضد زحف المغول والتتار، ضد الاستعمار والصهيونية، ضد مؤسسات الحكم اللاديموقراطية، ضد استئثار الأقلية بخيرات الأوطان، ضد التخلف الحضاري وغياب التجديد والابداع ، ضد وضد الى مالانهاية؟ فهل هذه شعوب تستأهل الذم والهجاء واليأس من مستقبلها ومن شبابها؟
وهل يراد للملايين العرب الشهداء الذين ضحوا في سبيل رسالات السماء ونداءات الأنبياء وألق الحرية وكرامة الانسان وعدالة الحياة وأخوة البشر والمساواة في الفرص، هل يراد لهم أن يبكوا في وحشة وسكون قبورهم حسرة على مابذلوا وما ضحوا؟
ثم، ألا تكفي أصوات الخزي والعار من خدم السلطان والمال والجاه الشامتين الراقصين على أوجاع ومآسي الآخرين حتى نضيف اليها أصوات اللطم واليأس والانسحاب الذليل؟
من هنا الأهمية القصوى أن لايقف المؤمنون بقدرات شباب العرب الهائلة، بسخائهم في بذل التضحيات، بأحلامهم بأن يعيشوا في عوالم الحرية والكرامة والعدالة والديموقراطية، بحقهم في تكافؤ فرصهم وتساوي مواطنيتهم، في كل ذلك وأكثر، أن لا يقفوا متفرجين وهم يرون جحافل الشماتة واليأس ينعقون، سواء بقصد أو بغير قصد، وذلك بدلا من أن ينشد هؤلاء المؤمنون بشباب الأمة أناشيد الحياة والأمل والصعود والفرح والصبر.
مايحتاج هؤلاء الشباب أن يسمعوه ليل نهار هو مافجروا به ثوراتهم وحراكاتهم: اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر. هم بحاجة، وهم يستعيدون أنفاسهم، أن يسمعوا ماقاله شاعر ايرلندا سيموس هيني: لكن مرة في حياة الانسان تصعد موجة العدالة التي كانت شوقا عند ذاك، يتناغم الأمل والتاريخ. نعم ويتحرك التاريخ الى الامام ويصعد الى الأعالي.
منذ خمسين سنة وقف الزعيم العمالي البريطاني الشهير هيو جيسكل يخطب في مؤتمر حزبه: هناك منا من سيحاربون، ويحاربون، ثم يحاربون مرة أخرى لانقاذ الحزب الذي نحب. في ساحات محن بلاد العرب الحالية لينشد شباب العرب أنهم سيحاريون، ويحاربون، ثم سيحاربون مرة أخرى لانقاذ انتفاضة أمتهم التاريخية عبر وطنها العربي الكبير، ورغم كل المعترضين المولولين اللاطمين.
599 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع