من أسوأ ذكريات ضباطنا وجنودنا في العراق تلك التي تدور حول السلاح الروسي وخيبات من استخدموه أو كلفوا بإصلاحه وصيانته وتغيير قطع غياره.
ليس في الجيش العراقي وحده، بل كان لدينا، أيضا، في الإذاعة والتلفزيون، أجهزة بث وتسجيل ومونتاج روسية إذاعية كان جميعنا يتندر بها وعليها، خصوصا على حديدها الضخم والثقيل وغير المهذب، وتلك الضوضاء التي تحدثها عندما تدور.
وأذكر في العام 1964 أن الإذاعة أوفدتني لتسجيل خطاب الرئيس عبد السلام عارف في قاعدة الحبانية وهو يودع القطعات العسكرية التي كانت تتهيأ للتوجه إلى كردستان لقتال الملا مصطفى، فتطرق في خطابه إلى مؤامرة القوميين العرب التي قيل، يومها، إن النظام كشفها مؤخرا، فقال في خطابه، وكان باللهجة العامية العراقية:
ما ظل علينا غير العربنجية، والله اللي يمد راسه منهم لأقصه بقندرة.
وترجمة ذلك لقرائنا العرب غير العراقيين هي أنه ( لم يبق علينا غير القوميين العرب، والله إن مد أحدٌ منهم رأسه فسأقطعه بحذاء).
وبعد الخطاب فوجئت بالرئيس يطلب مني محوه أمامه كاملا لئلا يسمعه أحد، فأقسمت له على أن الجهاز الروسي الذي كنا نستخدمه للتسجيل (وكان كتلة حديدية ثقيلة) يدور فقط إلى جهة واحدة، ولا يعود إلى وراء، وعليه فهو لا يصلح لغير التسجيل، ولا يمكن استخدامه للمحو مطلقا. فصدقني ولكنه أمرني بأن أذهب إلى الإذاعة وأمحوه فور وصولي. وهددني بأنه سيقطع أذني إذا علم بأن أحدا سمعه، وخاصة عبد اللطيف الكمالي المدير العام للإذاعة والتلفزيون، وكان من القوميين العرب يومها.
أخونا نوري المالكي هبط في موسكو مؤخرا. وسبقه وزير دفاعه الصوري سعدون الدليمي، لقلب الطاولة على أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها من دول العالم الأخرى التي تصنع السلاح وتتاجر به، معلنا إعادة تسليح الجيش العراقي بالسلاح الروسي، وإعادة ذكريات سنوات الخيبات القديمة الطويلة كلها، مع الأسف الشديد.
والحقية أن ما أحزنني ليس هو رجوع العراق إلى الوراء عشرات السنين، ولا العودة لمهازل السلاح الروسي، ولا هو المال العراقي الغزير الذي جعله المالكي ُيمطر على الكرملين دون أن يحتسب، بل إن ما أرعبني وأشعل الخوف والأسف في عروقي هو ما تحمله هذه الالتفافة المالكية الدليمية الروسية من علامات شؤم وحظ سيء للعراقيين. فإن كان الروس في سوريا ُوفقوا بأسد سوريا فمن سيكون لها أسد العراق في الأيام المقبلة؟
ومن سيرسل الطائرات الروسية لتدك أحياء المواطنين الآمنين غير المقاتلين وغير المسلحين في بغداد والنجف وكربلاء والرمادي والموصل والبصرة والعمارة والناصرية وغيرها إذا ما انتفضت على الفساد والظلم والديكتاتورية التي تطل برأسها علينا من جديد؟ ومن سيطلق صواريخها نحو المدارس والمساجد والمستشفيات في جنوب العراق وشماله، وفي غربه وشرقه، سواء بسواء؟
وكم سيختلف نوري المالكي عن بشار؟ وهل سُتغير إيران طبعَها فترفع يدها عن الجلاد، وتقف مع الجماهير العراقية المقهورة والمسحوقة إذا استفاقت وهبت لتطالب بالحرية والكرامكة ذات يوم؟ وهل سيختلف (شبيحة) نوري المالكي عن (شبيحة) الديكتاتور السوري القبيح؟
ومرة أخرى، وكما سبق أن تساءلت في السابق، أسأل اليوم هذا السؤال، كلُ هذا السلاح الروسي الكريه لقتال من؟ إيران، أم تركيا، أم سوريا، أم السعودية، أم الكويت، أم الأردن؟؟ أم هي لتحرير الجولان ومزارع شبعا وفلسطين؟؟ وقبل الإجابة على هذه الأسئلة أسال أيضا:
هل لدينا دولة حقيقية واضحة الحدود والمقاييس والسياسة كأية دولة أخرى من دول البشر تحاسب رئيس وزرائها ووزير دفاعها إذا ما ارتكبا خطيئة بحق الوطن وأهله ومستقبل أجياله القادمة؟
وهل للعراق وشعبه مصلحة حقيقية في مكافأة روسيا على قلة ذوقها وموت ضمائر قادتها وإصرارهم على ذبح أهلنا وأشقائنا في حواري دمشق وحلب واللاذقية وطرطوس ودرعا وحمص وحماة؟
وهل وافقت حكومتنا، بكل وزرائها أجمعين، على رحلة المالكي الروسية الخائبة هذه؟، وهل شارك جميع وزرائها في رسم شخصية الحكومة وسياستها وأهدافها، وموافقون على برامجها وسياساتها؟
شيء آخر. هل لدينا برلمان حقيقي اختاره الناخبون العراقيون (بحق وحقيق) ليحمي مصالحهم ومواقفهم، ويمنع حكومتهم من إهدار أموالهم والعبث بها؟، أم إنه برلمان (لملوم) من حواشي هذا الزعيم وذالك؟
ثم هل لدينا جيش موحد مهني مستقل عن الأحزاب والتيارات والعشائر والمرجعيات والمليشيات، يستطيع أن يستخدم السلاح الروسي الجديد، فقط في الدفاع عن الوطن، كل الوطن، عندما يتعرض لإهانة؟
وهل هو قادر فعلاً على أن يطلق رصاصة واحدة، إذا ما أراد أن يصد جيشا غازيا من شرق الوطن أو من غربه أو جنوبه أو شماله؟
ومتى سيصبح جيشُ المالكي قادرا على غزو الكويت أو السعودية أو إيران أو الأردن أو سوريا أو تركيا، أسوة بسلفه الراحل أبي عدي، لتأديبها ومنعها من استرخاص الماجدات العراقيات؟، وماذا سيكون في مقدور السلاح الروسي فعله حين يواجه مئات الطائرات والصواريخ وأقمار التجسس الغربية المتطورة التي تحشدها دول الجوار، صغيرها وكبيرها، غنيها وفقيرها، على حد سواء؟.
أعلم بأن كثيرين من عشاق المالكي سوف يرشقونني بما اعتدتُ عليه من ورد وسكر وزبيب، ويردون علي بأن العراق دولة كاملة غير منقوصة، وفيه حكومة منتخبة وجيش وبرلمان ورئيس ونواب رئيس وحرية وديمقراطية وأمن وأمان وسلام. اللهم سامح هؤلاء المتحيزين، فهم لا يفقهون.
فدولتنا العامرة الزاهرة القوية العزيزة لم تستطع منع إيران الشقيقة الكبرى من قصف قرى كردستان الآمنة. ولم تجرؤ على صفعها حين جففت أنهار المواطنين وجعلتها قاحلة، أو حين رمت وساخاتها علينا فدمرت مزارعنا ولوثت مياهنا. ولن تفعل شيئا لتردع تركيا من عبور حدودنا واستباحة مدن وقرى كاملة في الشمال.
وها هو المالكي وأعوانه ومستشاروه، بعد كل ذلك الصراخ القديم على ظلم البعث السوري الذي يرسل المخربين والقتلة لتفجير المفخخات لقتل نسائنا وشيوخنا وأطفالنا، يبارك اليوم مجازر الأسد، عملا بتوجيهات الولي الفقيه وإرشاداته، ويطير إلى الكرملين ليدفع مليارات دولارات العراقيين المساكين المعدمين ليكافيء بوتين على وقفته الشجاعة ضد (المخربين السوريين)، وعلى تمسكه بالديمقراطية إلى قطع النفس، وإلحاحه على حل سلمي دون تدخل أحد من الخارج، وانتخاب رئيس سوري جديد، ولكن بعد أن يلقي (المتمردون) سلاحهم ويدخلوا جنات النعيم التي أعدها لهم بشار وشبيحته ومحازبوه وداعموه الأشاوس.
نوري المالكي أعلن من موسكو أنه يدعم الحل الروسي للثورة السورية الصامدة، وكان عليه أن يغتنم الفرصة فيوظف ملياراته التسليحية الضخمة لإقناع السَلاَّخ الكبير بوتين بالكف عن قتل الشعب السوري، والسماح بتحرير سوريا من بعثها الأشد ظلما ودموية وفسادا من بعث صدام حسين الذي ذاق منه نوري المالكي وحزب الدعوة الأمرين.
لكن الحقيقة الثابتة هي أن الأباطرة أحباب الأباطرة، وأن الديكتاتوريين حلفاء الديكتاتوريين، والحرامية عشاق الحرامية، من أيام آدم وحوا وإلى اليوم.
والحقيقة الثابتة الأخرى هي أن الديكتاتوريين، وعبر التاريخ، يخرجون دائما من صفوف الفقراء والمظلومين، ويصعدون على أكتاف الجماهير المضطهدة، باسم الحرية والعدالة والمساواة، ومن أجل رفع الظلم عنها وتحقيق المساواة بين أفرادها، ومحاربة الفساد، وإقامة دولة القانون.
إنهم يتمسكنون، وحين يتمكنون يبدأون بالذبح الحلال. ويستر الله أهلنا في العراق مما سوف يأتيهم مع السلاح الروسي الكريه.
861 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع