سجالات طويلة من دون جدوى للبحث عن خليفة لكوكب الشرق أم كلثوم

       

مئات الأغاني الكلثومية التي لا تزال تعيش بيننا (أ ف ب)


الأندبيندت/إبراهيم العريس:منذ سطعت أم كلثوم في عالم الغناء العربي وهناك هاجس يسمى "هاجس خلافة أم كلثوم"، کیف "ترعرع" هذا الهاجس؟

هاجس خلافة أم كلثوم لم يكن وليد البارحة ولا ظهر فجأة كالعشبة الشيطانية، بعيد رحيل سيدة الغناء العربي، بل هو ظهر في المرات الأولى قبل عشرات السنين. أي يوم كانت صاحبة "سلوا قلبي" و"أنا في انتظارك" تعیش أولى ساعات مجدها الكبير. فمنذ صارت أم كلثوم أم كلثوم... كان هناك من يبحث لها عن خليفة. ولم تعدم الحياة الفنية عقولاً ماكيافيلية رأت في جفاف صوت منيرة المهدية، ومقتل أسمهان، واختفاء نادرة، والغموض الذي أحاط على الدوام بمسيرة سعاد محمد الفنية، حلقات في مسلسل الصراع على خلافة أم كلثوم. وأم كلثوم نفسها، كانت على الدوام مستنفرة للتهكم على الحملات الصحافية التي تسعى للعثور لها على خليفة أو خليفتين وأكثر. ولكن: لماذا كان هناك على الدوام سعي لخلافة أم كلثوم؟

بعيداً من الفن

في اعتقادنا أن الإجابة عن مثل هذا السؤال تقتضي صفحات من البحث في مسيرة الذهنية العربية والمشرقية بشكل عام، وفي دراسة النزعات القبلية الكامنة في الأفئدة، حيث يبدأ البحث عن الشيخ المقبل للقبيلة، منذ اللحظة التي يتبوأ فيها الشيخ الجديد مركزه. ونحن لو قلبنا الطرف في تاريخ الشعر العربي قبل الإسلام وبعده، لوجدنا أنه كان هناك على الدوام قطب مركزي، ومحاولات دائبة لإيجاد قطب يحل محله. ولكن، ما كان يمكن له أن يصح جزئياً في القبائل، وفي القبائل الشعرية... لا يمكنه أبداً أن ينطبق عند الحديث عن أم كلثوم و"خلافتها"... وذلك، أولاً، وبكل بساطة، لأن أم كلثوم لم تكن وليدة صوت جميل وحسب، بل كانت وليدة جملة من الظروف الفنية والاجتماعية والثقافية والحضارية، التي جعلت لها فرادة تنعم فيها، كما جعلت لمحمد عبدالوهاب فرادته ولفريد الأطرش فرادته ولأسمهان فرادتها ولليلى مراد فرادتها... إلخ.

علاقة شعب بروحه

أم كلثوم ولدت في رحم التغيرات السياسية والذهنية والفنية الكبرى التي عرفها العالم العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين، ولم تولد من رحم مغنية أخرى قيض لأم كلثوم أن تبدأ من حيث انتهت وتكمل مسيرتها. أم كلثوم هي جزء من، بل ذروة علاقة شعب بتراثه وبحساسيته الفنية وبحياته العاطفية وبأحلامه المستحيلة وبوطنه الآتي من قلب ظلام ما. من هنا تحتاج أي مغنية أخرى تريد أن تتربع على العرش الكلثومي إلى ظروف مشابهة تخلقها وتصنعها، وتتضافر في هذا كله مع المواهب الفنية المطلوبة ومع جهود الملحنين والمؤلفين الكبار الذين كانت علاقتهم الملتبسة دائماً بأم كلثوم جزءاً من الحافز الذي يدفعهم إلى التلحين أو إلى الكتابة - رامي، القصبجي، السنباطي، زكريا أحمد... إلخ. وفي انتظار تلك الظروف والعناصر والعوامل المستحيلة تظل قائمة المنتظرات على باب العرش الكلثومي طويلة وتطول أكثر وأكثر.

منافسات كبيرات

في الماضي طرحت أسمهان كمنافسة لأم كلثوم وخليفة لها إذا أمكن: حقاً كان صوت أسمهان رائعاً وشخصيتها قوية، ووفقت في عدد من الألحان، لكن أسمهان خلال حياتها وبعد موتها وحتى الآن لم تشكل أكثر من ظاهرة عارضة في مسيرة الغناء العربي. وبعد أسمهان طرحت ليلى مراد بصوتها الشجي، وطرحت سعاد محمد بأدائها القرآني المتقن، ثم طرحت فايزة أحمد بعاطفية صوتها الجياشة، لكن ليلى مراد لم تكن أكثر من ليلى مراد: مغنية من الطراز الأول، ذات صوت نادر وأداء طيب... وبين هذه الصفات الفنية الضيقة ورحابة العالم الكلثومي بون شاسع لم تتمكن ليلى مراد من اجتيازه أبداً، حتى ولو كانت بعض أغانيها لا تزال تعيش بيننا حتى الآن ونصغي إليها بشغف ومتعة. وسعاد محمد -وكانت أكثر من غيرها مؤهلة للدنو من العرش الكلثومي- ظلت المغنية/ الظل التي تعيش في الفيء الكلثومي من دون أن تقترب من الشمس الكلثومية. أما فايزة أحمد فإنها خلقت بصوتها مدرسة في الأداء، ساعدتها فيها ألحان كثيرة عرفت كيف تطلع من صوتها كل ما فيه من كنوز مخبوءة، لكن فايزة أحمد كانت تصلح لكل شيء... باستثناء خلافة أم كلثوم، هذا بالنسبة إلى ثلاث مطربات كبيرات عشن خلال العهد الكلثومي وتفيأن ظله، وداعبت كل منهن الرغبة، في لحظة من اللحظات، بأن تكون هي الخليفة المنتظرة (أسمهان، ليلى مراد، سعاد محمد) وبالنسبة إلى رابعة أتت من خارج الصرح الكلثومي لتحاول اقتحامه فلم تفلح (فايزة أحمد)، لكن الأربع اللاتي أشرنا إليهن اختفين عن الساحة بشكل أو بآخر، حتى من قبل أن ترحل أم كلثوم عن عالمنا هذا - وفايزة أحمد بدورها كانت قد انتهت منذ أن سلمت قيادة صوتها للراحل قبل أيام، زوجها محمد سلطان.

بعد غياب "الست"

بالنسبة إلى الجيل الأجد من المغنيات، هناك كذلك ثلاث مطربات برزن بشكل أوضح خلال الفترة التالية لرحيل أم كلثوم، فاعتقدت كل واحدة أن غياب "الست" يمكنه أن يمهد الطريق لها نحو العرش: فهناك في هذه الفئة المخضرمة وردة، التي بدت خلال السنوات الأخيرة من حياتها الأشهر والأكثر شعبية بين الجميع، ولكن ثمة لدى وردة -إلى جمال صوتها وقوة أدائها- شيئاً ما هو أقرب إلى الابتذال في غنائها كما في شخصيتها، هناك جانب "عدوياتي" -نسبة إلى أحمد عدوية- في أغانيها، يجعلها عاجزة حتى عن خلافة ليلى مراد... فهي افتقرت -بالمقارنة مع هذه الأخيرة- إلى أناقة الأداء وكبرياء المرأة، عدا أنها افتقرت تقريباً إلى كل الظروف والمواهب التي صنعت أم كلثوم. أناقة الأداء والكبرياء أمران يميزان مرشحة أخرى من المرشحات الدائمات لخلافة "الست"، أعني ميادة الحناوي. ففي ميادة شيء كثير من أم كلثوم: الإطلالة، والأناقة، وسلامة الأداء، والقفلات الأرستقراطية، ناهيك بجمال أخاذ يعطيها تعاطفاً مسبقاً، لكن میادة لم تتمكن حتى الآن من الاقتراب من العرش لأسباب عديدة أخرى ربما كان في مقدمتها افتقارها إلى الجمهور العريض الذي يشعر أن هذه المغنية جزء منه ومن تاريخه، لا مجرد صوت جميل يغني وشكل جميل يطل ويتمایل.

الحياة بين الأمثال

عزيزة جلال كان عندها ما يقربها من الناس أكثر: عندها خفة الروح، إلى جانب صوتها الجميل العذب، وكان عندها كذلك محمد الموجي الذي لم يبخل عليها بالألحان الجميلة، لكننا إذا شئنا أن نحدد من هي المطربة التي تخلفها عزيزة لوجدنا الجواب بديهياً: ليلى مراد! ليلى مراد يمكن أن تكون لها خليفة كعزيزة جلال... وفي هذا السياق نفسه يمكن القول إن ميادة الحناوي هي أقرب إلى خلافة فايزة أحمد منها لخلافة أم كلثوم. ووردة تبدو أقرب إلى المزج بين شادية وليلى مراد وشهرزاد -التي لم يعد أحد يذكرها- وهدی سلطان، منها إلى التنطح لخلافة "الست الكبيرة". نعم... كل واحدة من هؤلاء المطربات يمكنها أن تخلف أحداً، وأن تكون لها خليفة... فلا شيء يولد من لا شيء، كما يقول المثل اللاتيني، لكن هناك مثلاً لاتينياً آخر معناه في العربية الحياة قصيرة لكن الفن طويل العمر. وهنا، في هذا السياق يخدمنا هذا المثل، لأنه يحيلنا إلى سؤال بديهي: ولكن لماذا نحن بحاجة إلى أن نجد خليفة لأم كلثوم؟ نعم، لقد رحلت أم كلثوم، ولكن هل رحلت أغانيها برحيلها؟ هل غاب صوتها؟ وهل غابت عن مساءات الخميس، ومنتصفات الليالي لدى المستمعين العرب؟ الخلافة تكون لمن يحل محل من مات، ولكن هل ماتت أم كلثوم؟

والحقيقة أننا لسنا نطرح هذا السؤال كما يحكي الشعر، بل نطرحه سؤالاً له كل جوهر العلم: أن هناك مئات الأغاني الكلثومية التي لا تزال تعيش بيننا، ومرشحة لأن تعيش معنا إلى الأبد. وليس فقط لأن صاحبتها مطربة ذات صوت استثنائي ورائع، بل لعشرات الأسباب الجمالية والسوسيولوجية بل السياسية والتاريخية حتى، والتي أعطت أم کلثوم زعامتها المطلقة. ولأن تلك الأسباب لن تزول، يقيناً أن زعامة أم كلثوم لن تزول، بالتالي يقيناً أن أم كلثوم لا تحتاج إلى أن تكون لها خليفة. ويقيناً أن معارك الخلافة التي تدور في الظل الكلثومي منذ نصف قرن أو يزيد لم تكن أكثر من زوبعة في فنجان... لأن الشيء الذي كشفت عنه كل تلك المعارك كان أن أم كلثوم هي خاتمة المطربات... وصاحبة العرش الذي لا تغرب عنه شمس.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

641 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع