الطاف عبد الحميد
إستأجرت محلا في سوق الصاغة في الموصل لولدي مناصفة مع أحد الصاغة الذين يقومون بتصنيع المصوغات الذهبية حسب رغبة الراغب ، بقصدية تعلم المهنة ، بعد الخصومة الشديدة التي أبداها إبني مع الدراسة التي تعاكست مع رغبتي ، لأسباب ضاغطة وغير مشخصة الى الحد الذي أصبحت فيه المواصلة مستحيلة ...
كنت مواضبا على مضض بالتواجد في المحل يوميا ، ليس بنية التكسب أو الربح الزائد ، فقد كان وجودي متناظرا مع عدمه ، الا أني كنت مدفوعا بتثبيت أركان إبني ، رغبة مني بتصليب عوده الغض وتمتينه بتحصينه بمعارف وأعراف المجابهة والتأقلم مع متطلبات السوق وتصريفاته وأفخاخه ألتي لاترحم من يغفل عن بعضها ، فالكل في السوق منفصل عن عالم الفضائل "الا ماندر" وعليه أن يكون ضمن حدوده المكانية وهو مشابه للنظام الكونفدرالي بقوانينه الصارمة المنفلتة هبوطا من هيمنة المركز الاخلاقي والمجردة أحيانا من المثل العليا والمنحدرة الى أسفل والمتسلحة بسلاح الشطارة والبهلوة والانعتاق من قيود التدين لتحقيق فائض الربح الذي لايتوقف عند حد ، بل إن الرذائل أحيانا تتناسب طرديا مع المستويات القارونية المتذهبة بالذهب ... الحصار ضاربا أطنابه في السوق ومن لم يكن له قرون ، أمسى ضرغاما هصور ، والمفترسون يتزاحمون على كسب الرزق راغبين ، في ألإيقاع وإيلاج الناس الى الافخاخ المنصوبة لهم ، في زمن الجوع وإنحسار الرزق وتباعد الحل الاممي المنقذ لشعب باع بعض أفراده أبواب بيوتهم وشبابيكها وكل مقتنياتهم المتهالكة تحت طرق مطارق الحصار.. أرض مابين النهرين إستطاعت أن تنجو بصبرها الطويل وتستوعب تطاول المعتدين من الجيران ، الذين إستعانوا بالبعيد من الامريكان المعروفين بتخصصهم بالحروب القذرة ، ليحيلوا العراق الى أنقاض بلد ، كان سابقا يسمى العراق ، تلك الفترة ،اكتنزت وترهلت بالاحداث ، سرد بعضها أو كلها ، غير منتج للقارىء ، فقد ولج الجميع في أتونها طوعا وكرها ، عدا من تاجر بمأسي العراقيين من تجار الحرب الذين تفرزهم مجتمعاتهم وتلفظهم فيما بعد كطفيليين يرفلون بالمال الذي يقطر ألاما والمثقل بقصص الجوع والحرمان السائدة لمجتمع حشر عمدا في قفص حديدي مغلق لكي يعيش حتى الموت على مايملك ، دافعين به الى الاندثار والتلاشي والتأكل والتعرية النفسية من القيم الماسكة لمجتمع عرف بشدة تماسكه وجود أهله وتكافلاتهم الاجتماعية الجالبة لحسد الجيران ناكري الجميل وحقوق الدماء المهدورة .
يتجول في السوق بائع متجول يحمل بيديه أدوات تستخدم من قبل الصاغة لتصنيع المصوغات الذهبية ، كان غزير الشعر ، قصير القامة ، رث الهندام ، وقد لاحظت أنه كان يرتدي نفس القميص وبشكل يومي لعدة سنوات ، اسمه عبد الهادي وهو خريج أعدادية التجارة ، أشتري منه بعض الادوات ، ليس بقصد سد حاجتي منها ، ولكن من أجل مساعدته في صراعه من أجل البقاء في أعوام الجوع والحرمان ، حاولت تكرارا أن أسانده ، بدفع ثمنا أعلى لمبيعاته لنا ، الا أنه كان يرفض أي مبلغ يزيد عن قيمة المباع ، كان كريم النفس ، لايملك قوت يومه ، وكنت أعرف ذلك ، عندما يلجأ الى إقتراض مبلغ بسيط لسد رمق عائلته في أيام الشح الكثيرة ، عبد الهادي أصبح نديما لنا في المحل ، يتخذ منه أحيانا مكانا للراحة لاستعادة قوته المصروفة في التجوال المستمر من الصباح حتى الغروب ، تتقمصه رغبة وميل للحديث في الامور العلمية والاجتماعية ، وهو ناقد جيد للمظاهر السلبية ، متعالي بفقره المؤدلج بالتسامي على غنى الاخرين المنخفض نزولا والمتداعي الى هاوية الرذائل ، كنت أحيطه بالتقدير والاحترام كأخ في الانسانية ، عبد الهادي كان ملحدا ، نبهته الى ضلالة ماهو فيه ، إلا أني أدركت أن قواه قد خارت ، وأصبح محتجا على الارادة الالهية في الحالة الملازمة له في جدلية البحث عن الرزق المستعصي الحصول عليه بالمثل العليا ، ذاكرتي أسعفتني بأقوال العظماء ، مررتها ثانية أقلبها وأستبين مقاصدها ملتمسا عذرا أو سببا ، له في كسر واقعية إلحاده الطارىء (لاتجوعوهم فتكفروهم ) ( لو كان الفقر رجلا لقتلته ) (عجبت لرجل لايجد قوت يومه ولم يستل سيفه ) ، إلا أني أدركت بأني عاجز عن فهم الحقيقة تماما لأني لم أعش واقع كواقعه ، فاجئني ذات يوم بطرح غريب غير مستساغ ، وقال لي ، ذهبت اليوم الى محل للبقالة في حينا ، وأعطيته القرأن الكريم ، وقلت له خذ هذا المصحف وأعطني بثمنه أي شيء ، فما عدت بحاجة إليه ، إستهجنت ، وأستغربت وصعقت ، لمثل هذا التصرف المسرف في الوقاحة والتحدي ، لكن الامر إنتهى على ماهو عليه ، رغم إحتجاجي وتعنيفي له على تصرفه الغريب ... كان كثير الاسئلة بقصد التعلم والمناقشة ، وغالبا ماكانت أسئلته تدور حول الحروب الكونية ، وملاباساتها وتأثيراتها على الدول الصغيرة في لعبة الامم المستمرة في التصارع ، ومن خلال النقاش قال لي يبدو أنك قارىء للكتب ، مهتما بها ، في البيت يوجد عندي كتاب وحيد يتكلم عن الحرب "نسيت اسمه " سأقوم بإهدائك إياه ، عبد الهادي ، كان خليطا متجانسا من الفقر والعبثية والضياع والالام ، في اليوم التالي جلب لي الكتاب الهدية ، وكان عنوانه ( الحرب العالمية الثانية الجزء الثالث) لمؤلفه اللواء الركن فاروق الحريري ، عندما قرأت عنوان الكتاب ، قلت بصوت مسموع "سبحان الله " والدهشة تغمرني وساحت على من كان جالسا ومستمعا ومشاهدا لما يجري ، سبق لي أن أشتريت كتاب الحرب العالمية الثانية لنفس المؤلف من أحد الباعة الذين يبيعون الكتب على الارصفة ولكن بجزئيه الاول والثاني ، حيث لم يكن لدى البائع في حينها الجزء الثالث ، الكتاب بأجزائه الثلاثة مكتملا ألأن في مكتبتي ، لست في مجال تحليل الصدفة ، فلها حساباتها المعقدة ، حاولت تسديد ثمن الكتاب إلا أنه رفض رفضا قاطعا ، لكنه إستعاض عنه برغبته بكتاب عن الحرب العالمية الاولى وإهدائه له ، أهديته الكتاب ، الا أنه أعاده لي بعد اسبوع ، وقال لي (لاتوجد عندي رغبة بالقراءة ) ، لازال عبد الهادي حيث هو في نفس المكان وبإختلاف الزمان يغرد ويقرا جدلية السوق والفقر المدقع والغنى الفاحش ، وإنحدار السلوك الانساني بتقاسم غير رحيم لموارد الارض التي تضمنا وتجمعنا في مكان واحد يسمى الوطن .
474 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع