ذكريات عن سلام عادل وسيرته السياسية والحزبية حتى عام ١٩٦٣الحلقة الثانية
نوادر سلام عادل
وعن بعض نوادر سلام عادل وشخصيتهِ المرحة يَروي عامر عبد الله عن قدرته في التعامل مع المتغيّرات: فيقول كنّا في دمشق قبل ثورة تموز (يوليو) العام 1958، وقد ذهبنا لتناول العشاء، في مطعم في شارع بغداد مبتهجين بحريّتنا وكأننا حمامتين انطلقتا من القفص لتوّهما، ويومها كان سلام عادل منشرحاً بعد أخبار سارة عن علاقات الضباط الأحرار والتئام الحزب وتوسّع نشاطه تحضيراً للثورة المنشودة، لا سيّما بوعود عربية واشتراكية بدعمها عند قيامها بعد جهود مضنية وشروحات مطوّلة قُدِّمت للأصدقاء والأشقاء، فاعتدل في جلسته ونادى على النادل ونقّده (أي منحه)"ليرة" سورية قائلاً "جيب أي (إجلب) لنا إضافي لما يريده الشباب"، ونظر إلى عامر عبد الله قائلا: أبو عبد الله أكو فلوس (أي يوجد لدينا نقود).. نحن "زناكين" (أي أغنياء) وهي لفتة يحبّها عامر عبد الله، وكان يقوم بتمثيلها كثيراً، خصوصاً وأن لقاءه مع أبو إيمان (حسين أحمد الرضي- سلام عادل، أمين عام الحزب آنذاك) كان حرّاً وبدون عوائق، سواء في دمشق أو في موسكو، في حين كان يلتقيه في بغداد متخفّياً لابساً العقال والكوفية أو متنكّراً بزي آخر أو في أحد البيوت الحزبية، ويتحدّثان بهمس في ظروف العمل السري والملاحقة. ويذكر عامر عبد الله أنه في أحد أيام عيد الحزب أو احتفاءً بإحدى مناسباته، أولمت السيدة ثمينة ناجي يوسف (زوجة سلام عادل) طعاماً إضافياً وبنوعيات أفضل، وأنها حضّرت لهم "طبقاً من الدولمة" ودجاجاً وما شابه، الأمر الذي يُعتبر بذخاً في تلك الأيام العصيبة وظروف الحزب المالية القاسية (العام 1956 أو ما بعده) وخاطب سلام عادل عامر عبد الله والآخرين: كُلوا فالحزب يريدكم أقوياء!.
سلام عادل في ليلة الثورة
في مطالعتي عن وميض عمر نظمي الموسومة "وميض عمر نظمي - حالم قتلته النزاهة" (انظر: جريدة الزمان في 23 و24 و26/10/2016) رويت تفاصيل كيف قضى سلام عادل ليلته عشيّة الثورة، وكنت قد أوردت بعض التفاصيل التي نقلها لي عامر عبد الله، ولكنني سمعت رواية أخرى نقلها لي ابراهيم الحريري، وعاد ودوّنها في خاطراته المثيرة. وتنصبُّ رواية الحريري التي سمعها من مهدي أحمد الرضي الموسوي شقيق سلام عادل نقلاً عن كمال عمر نظمي، الذي كان سجيناً معه في سجن "نقرة السلمان" بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963، أن سلام عادل جاء إلى بيت كمال نظمي مساء يوم 13 تموز/يوليو/1958 دون موعد مسبق، وطرق الباب وفتح له نظمي وبعد السلام والسؤال عن الأخبار والأحوال سأل سلام عادل، نظمي: هل يوجد بانزين كاف في سيارتك؟ فأجابه نظمي نعم، ثم طلب منه اصطحابه في جولة بشوارع بغداد في الهزيع الأخير من ليلة 14 تموز/يوليو 1958، فانطلقت السيارة لتمرّ من أمام وزارة الدفاع وتوجّهت بعد ذلك إلى منطقة الصالحية، حيث محطة الإذاعة والتلفزيون، ثم المرور أمام منزل نوري السعيد في كرادة مريم وكانت الأنوار مطفأة، عدا مصباح واحد أو اثنين فوق الباب الخارجية، التي يوجد أمامها شرطي يغالبه النعاس. أراد سلام عادل أن يستكشف بنفسه الترتيبات الأخيرة قبيل ساعة التنفيذ وليتأكد أن الأمور سائرة كما هو مخطط لها ولا شيء يوحي بحركة غير اعتيادية، وفي طريق العودة مرّ أمام وزارة الدفاع أيضاً، وحين وصلا إلى المنزل حاول سلام عادل النوم، ولكنه لم يستطع وظلّ يصعد وينزل ويتحرّك طيلة الليل وحتى الصباح، وحين فتح الراديو عرف أن الثورة انطلقت بتحرّك الجيش. أما رواية عامر عبد الله فتقول إن سلام عادل وجمال الحيدري باتا ليلة 13 و14 تموز/ يوليو/ 1958 في منزل ناظم الطبقجلي في منطقة الصليخ وعلى سطح الدار بانتظار الإعلان عن الثورة وكنتُ قد حاورت عامر عبد الله مشكّكاً تصديقي للرواية التي تقول أن الطبقجلي كان صديقاً للحزب كما كان يؤكد عامر عبد الله، فعاد وكرّر على مسامعي نعم ودليله أن سلام عادل وجمال الحيدري باتا عنده ليلة الثورة. قد يكون عامر عبد الله قصد إنهما كانا عنده ليلة الثورة ولكن هل استمرّا حتى الصباح أم إن سلام عادل غادر المنزل حين خيّم الظلام ليتوجّه إلى منزل كمال نظمي (المقصود ليلة 14 /تموز). ويقول كمال نظمي في حديثه مع شقيق سلام عادل إنه وسلام عادل توجها إلى دائرة البريد لإرسال برقية إلى مجلس السيادة ورئاسة مجلس الوزراء الذي أُعلن عنهما تأييداً للثورة باسم الحزب الشيوعي وكان عامل البريد قد تردّد وقتها وخشي أن يكون في الأمر ثمة مساءلة، لكنه استلم البرقية منهما. قد لا تتعارض الرواية الأولى مع الرواية الثانية، فقد يكون سلام عادل قضى جزءًا من الليل في بيت الطبقجلي وبصحبة جمال الحيدري أو أنهما كانا في ليلة 13 في منزل الطبقجلي ثم افترقا ليلة 14 أو أنهما كانا سويّة ليلة 14، وبعدها افترقا وقضى سلام عادل الجزء الأخير من تلك الليلة في منزل كمال عمر نظمي بعد أن ترك بيت الطبقجلي (انظر: عامر عبدالله - النار ومرارة الأمل، مصدر سابق). وكما أشرنا فقد كان أول عمل قام به سلام عادل صبيحة الثورة هو إرسال برقية تهنئة إلى قيادة الثورة وتقول ثمينة ناجي يوسف إن سلام عادل بعد أن سمع البيان الأول، ارتدى بدلته لأول مرّة بعد أن ظلّ يلبس الملابس العربية الشعبية (العباءة والدشداشة والكوفية والعقال) واصطحب معه الكادر الشيوعي دلّي مريوش (ولم تقل أن كمال مظمي كان معهما) واتجه صوب بريد الأعظمية ليرسل من هناك البرقية: وكان نصّها:
لماذا سقط عبد الكريم قاسم؟
يمكنني القول أن هناك أربعة أسباب أساسية أدّت إلى الإطاحة بنظام قاسم:
السبب الأول مطالبته بضمّ الكويت في العام 1961، وهذه أشبه بحكاية مشؤومة دفع العراق ثمنها لاحقاً بمغامرة صدام حسين العام 1990 بغزو الكويت، الأمر الذي ساهم في تدمير العراق وفرض حصار دولي عليه دام 13 عاماً، ومن ثم احتلاله في العام 2003، وقد كانت مطالبة قاسم تعني فيما تعنيه اللعب لتغيير الجيولوليتيك في منطقة ستراتيجية وغنيّة بالنفط وجزء من مناطق نفوذ القوى الغربية، وهو أمر غير مسموح به، بل محرّم في إطار السياسة الدولية.
السبب الثاني إصداره قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 الذي منح المرأة بعض حقوقها فيما يتعلّق بقضايا الزواج والطلاق والنفقة والنسب والوصية والإيصاء والإرث وقد اعتبر عقد الزواج رضائياً بين رجل وامرأة تحلّ له شرعاً وغايته إنشاء رابطة مشتركة للحياة واعتبر كذلك كل شكل من أشكال الإكراه جريمة، وحدّد السن القانوني بالثامنة عشر من العمر واشترط تسجيل عقد الزواج لدى محاكم الأحوال الشخصية، وبخصوص الطلاق فيحق طلبه إذا كان الزوج قد تزوّج بامرأة أخرى دون إذن المحكمة أو تسبب في ضرر مستحكم أو حكم عليه بعقوبة تزيد عن ثلاث سنوات أو هجر زوجته لمدة سنتين أو بسبب المرض أو العنّة أو غير ذلك.
وجاء في الأسباب الموجبة في تشريعه هو: تعدّد مصادر القضاء واختلاف الأحكام ما يجعل حياة العائلة غير مستقرّة وحقوق الفرد غير مضمونة. وقصد من ذلك إنصاف المرأة، ليكون القانون واقعاً يجمع أهم الأحكام الشرعية المتفق عليها. فسخّرت الأوساط الدينية والتقليدية والرجعية كل قواها ضده وعملت للإطاحة به.
وقد استثمرت الجماعات القومية فتوى السيد محسن الحكيم "الشيوعية كفر وإلحاد" فحشدت القوى ضد نظام قاسم والشيوعيين، لا سيّما في إطار غطاء ديني. ومن الطريف أن محاولة جرت خلال مجلس الحكم الانتقالي للإطاحة بالقانون الذي جرى تسويف بعض مواده وتجميدها من الناحية العملية، وتم التصويت على إلغائه، لكن بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق لم يصدّق على ذلك، وطلب إعادة مناقشته والتصويت عليه، فكانت النتيجة الإبقاء عليه.
والسبب الثالث- إصدار القانون رقم 80 لعام 1961 بخصوص استعادة 99.5 % من الأراضي العراقية من شركات النفط الاحتكارية، بحجب "حقها" بالتصرف غير القانوني في التنقيب. وقد فتح هذا القرار معركة ضارية ضده وتآمراً لا حدود له على نظام قاسم من جانب القوى الاستعمارية، التي تلقّت ضربة أخرى عند تأميم النفط العام 1972، الأمر الذي جعلها لا تستكين ولا تستسلم حتى تم إلغاء نتائجه على الرغم من أن موارده ذهبت لمغامرات عسكرية وأجهزة أمنية وثم تبديدها بشكل لا عقلاني، وزاد الأمر عندما تعرضت بعد العام 2003 للسرقات وعمليات النهب والابتزاز.
والسبب الرابع حرب قاسم ضد الثورة الكردية التي بدأت في 11 أيلول (سبتمبر) 1961 بشروعه بقصف مناطق البارزانيين، الأمر الذي فتح معركة مع الأكراد، وقبلها بالطبع كانت معركته مع نظام عبد الناصر والقوميين والبعثيين، ناهيك عن تدهور علاقته مع الحزب الشيوعي وملاحقة قياداته وكوادره. كل ذلك مهّد للإطاحة بقاسم في 8 شباط (فبراير) العام 1963 ومعه أطيح بما تبقى من مكتسبات الثورة. جدير بالذكر أن عدم حل المشكلة الكردية بشكل عادل ويلبي طموحات الكرد، كان أحد أسباب ضعف الدولة العراقية واختلالها منذ تأسيسها، وكان عامل هدر وإنهاك للأنظمة العراقية الملكية والجمهورية.
إن ما سمّي بفترة "المدّ الثوري" أو "المدّ الأحمر" أو "الهيمنة الشيوعية"، لم يكن المقصود منها أخطاء الحزب الشيوعي وما ارتكبه في الموصل وكركوك ومحاولته الانفراد بالشارع، ولا سيّما بعد القضاء على حركة الشوّاف وملاحقة القوى القومية والبعثية فحسب، بل لأن الفترة القصيرة من " شهر العسل" التي ذاق فيها الحزب السلطة أو شمّ رائحتها شهدت طائفة من الإجراءات الثورية المهمة، فقد حققت خلال تلك الفترة القصيرة ما يلي:
1- انسحاب العراق رسمياً من حلف بغداد في 24 آذار (مارس) 1959.
2- إيقاف مفعول الاتفاقية العراقية- البريطانية في 4 نيسان (أبريل) 1959.
3- مغادرة آخر مجموعة من الجنود والضباط البريطانيين الأراضي العراقية في 30 أيار/مايو/1959.
4- ارتفاع علم العراق على قاعدتي الحبانية والشعيبة الجويتين.
5- فسخ الاتفاقيات الثلاث مع الولايات المتحدة التي وقعها العراق بين عامي 1954و1955 والمتعلقة بـ"المساعدة" العسكرية واستخدام العراق للأسلحة والمعدّات الأمريكية واستخدام "المساعدة الاقتصادية" على أساس مبدأ أيزنهاور.
6- خروج العراق من الكتلة الاسترلينية (منطقة الاسترليني) في حزيران/ يونيو/ 1959. (انظر: كتاب تاريخ الأقطار العربية المعاصر، أكاديمية العلوم في الاتحاد السوفييتي، معهد الاستشراق، دار التقدم، ج1، 1976، ص 329-331) محاولة تقييم حكم قاسم 1958-1963.
وبالطبع فثمة أسباب أخرى للإطاحة بحكم قاسم داخلية وخارجية كي لا يكون نقطة استقطاب وتأثير لبعض شعوب المنطقة، ولذلك سعت القوى الإمبريالية لإعادة حصان تموز الجامح إلى الحظيرة وعملت ما في وسعها لتفريق القوى الوطنية، خصوصاً وأن مصالحها تضرّرت بسبب الإجراءات التي اتبعتها حكومة الثورة فضلاً عن خطوات داخلية مثل الإصلاح الزراعي.
استشهاد سلام عادل
روايات وسرديات مختلفة
ظلّ استشهاد سلام عادل لغزاً غامضاً وتعددّت الروايات بشأنه، وبعضها اقترب من اليقين حتى جاءت رواية أخيرة لآرا خاجادور لتثير أسئلة جديدة وربّما لتحرّك ما استقرّ في الذاكرة وفي الأذهان، بخصوص ما كُتب وما تم تناقله وتردّد كثيراً على الأفواه والألسن، ولأن بعض من كان في تلك الأيام في موقع المسؤولية ما يزال حيّاً فقد اقتضى البحث العلمي والكشف عن الحقيقة، بذل المزيد من الجهد لإجلاء واقع الأمر، والتوجّه بالسؤال خصوصاً حين يتم الإقرار بأن ما حصل كان "جريمة "بكل معنى الكلمة.
بيان رقم 13
واستمرّت إدارة حازم جواد في قيادة التنظيم، سواء في التحضير أو خلال حكم البعث، وقد أذاع بنفسه البيان رقم (1) يوم 8 شباط (فبراير) العام 1963. وحين اشتدّت أعمال المقاومة قبل إعلان الحكومة اقترح طالب شبيب وهو "أكثر المسؤولين وعياً وليبرالية" على حدّ تعبير حازم جواد، إصدار إنذار هو البيان رقم 13 القاضي "بإبادة الشيوعيين"، وحسبما يذكر حازم جواد أنه اعترض على ذكر الشيوعيين بالاسم واقترح بدلاً عنه تعبير "الفوضويون" فأصرّ شبيب "إصراراً" عجيباً، وقال لا بدّ أن نسمّيهم بالاسم حتى تفهم الناس، ولكنه ندم على ذلك ندماً شديداً، وهو ما أخبر به كاتب السطور حين التقاه في كردستان العام 1992 خلال مؤتمر صلاح الدين للمعارضة أو في دمشق العام 1994 والعام 1995 وكذلك في لندن عندما جاء لتقديم طلب اللجوء السياسي العام 1997 ولكنه توفّي هناك بعد بضعة أشهر، وبرّر للكاتب أن قصده كما قال إيقاف المقاومة وإخافة المقاومين وشلّ حركة الشيوعيين، لكن الأمور اتجهت باتجاه آخر. وكان حازم جواد يعتقد أن الحزب الشيوعي سيكتفي بإصدار بيان أو يقوم بإخراج تظاهرة محدودة ضد الانقلاب، ولم يكن يتصوّر استمرار المقاومة بين 8-10 شباط ويعتبر تلك المقاومة سبباً جديداً لتشدّد العسكريين الذين كانوا ينتقدونه على تقديره الخاطئ، الأمر الذي دفعهم إلى الميل إلى حملات الإعدام، وخصوصاً أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وعبد السلام محمد عارف وغيرهم وهو ما أكّده للكاتب عبد الستار الدوري حين قال إن معظم أعضاء القيادة كانوا يميلون إلى الرأي الذي ذكره حازم جواد.
ويضع حازم جواد في رقبة صالح مهدي عماش المذبحة التي ارتكبت بحق الشيوعيين والتي أيّدها البكر وحردان (المقصود بُعيد حركة انتفاضة حسن السريع في معسكر الرشيد وعشية تسفير عدد من كبار الضباط وشخصيات شيوعية ووطنية بارزة إلى سجن نقرة السلمان، فيما عُرف بقطار الموت) وقد روى للكاتب العقيد غضبان السعد الملحق العسكري السابق في موسكو العام 1959 قصة قطار الموت كاملة، وكما حدثت كشاهد عيان وقد جئت على ذكرها في العديد من الكتابات، (حديث خاص مع غضبان السعد، براغ، 1976 وبغداد 1978 ودمشق 1981).
المشرق/عبد الحسين شعبان
للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى:
https://algardenia.com/terathwatareck/36762-2018-08-29-11-28-31.html
1756 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع