عبد السلام محمد عارف.. كما رأيته (الحلقة الثامنة)
الرئيس المصري يجمع عبد السلام عارف وقادة الكتلة القومية في منزله بالقاهرة للاتفاق علي برنامج عمل سياسي سري مصري ـ عراقي
الزيارة المرتقبة للرئيس عبد الناصر الي العراق
كانت زيارات الرئيس عبد السلام عارف الي الجمهورية العربية المتحدة ولقاءاته واجتماعاته بالرئيس جمال عبد الناصر عديدة ومتتالية، فقد تواجد في أرض الكنانة خلال عام 1963 مرتين، وزارها للمرة الثالثة في كانون الثاني )يناير) 1964 ليشارك في مؤتمر القمة العربي الاول، وللمرة الرابعة خلال شهر ايلول (سبتمبر) من العام نفسه لحضور اجتماعات مؤتمر القمة العربي الثاني، وللمرة الخامسة في تشرين الاول (اكتوبر) من العام نفسه ليحضر اجتماعات مؤتمر قمة دول عدم الانحياز، وكان من المفترض دبلوماسياً ان يرد الرئيس جمال عبد الناصر ولو بزيارة واحدة للعراق مقابل الزيارات الخمس المذكورة، ولا سيما وأن الفئات القومية كانت توّاقة لاستقبال الزعيم العربي الكبير في شوارع وساحات بغداد نظراً للشعبية الواسعة التي كان الرئيس عبد الناصر يتمتّع بها في العراق، هذا فضلاً عن وجود نص في اتفاقية التنسيق السياسي الصادرة في ايار (مايو) 1964 وكذلك نص آخر في اتفاقية القيادة السياسية الموحدة المعلنة في تشرين الاول (اكتوبر) من العام ذاته، يشيران بوضوح الي ان الاجتماعات المشتركة تنعقد مرة في القاهرة ومرة اخري في بغداد، في وقت كانت الصحف العراقية تنشر بين فترة واخري تصريحات لوزير الثقافة والارشاد عبد الكريم فرحان ووزير الوحدة الدكتور عبد الرزاق محي الدين والدكتور شامل السامرائي وزير الصحة، عن زيارة قريبة الرئيس عبد الناصر الي بغداد، بل ان الرئيس عبد السلام نفسه أشار في تصريحات نشرت في الخامس والعشرين من ايلول (سبتمبر) 1964 الي قرب تلك الزيارة الموعودة التي طال انتظارها.
وخلال عام 1964، وعلي الرغم من تبادل زيارات متبادلة، تعّد بالعشرات، لمسؤولين ووفود عسكرية وحكومية وشعبية بين الدولتين، إلا ان أكبر مسؤول مصري زار العراق للمشاركة في احتفالات تموز (يوليو) 1964 كان نائب الرئيس عبد الناصر، السيد حسين الشافعي. أثار تردد الرئيس عبد الناصر وعدم استجابته للدعوات المتكررة التي وُجّهت اليه بشكل رسمي، وعدم إيفائه بوعوده العديدة لزيارة العراق امتعاض الرئيس عبد السلام عارف واستياءه، معتبراً تصرفه ذاك استصغاراً لشخصه، إذ قرر عدم القيام بزيارة سادسة الي مصر علي الرغم من اعلان القيادة السياسة الموحدة رسمياً منذ العشرين من تشرين الاول (اكتوبر) 1964، ورأي ضرورة عقد اجتماعها الاول ـ علي الأقل ـ في بغداد بدلاً من القاهرة.
ويبدو ان القاهرة قد شعرت او اُشعرت بذلك، في حين رأت الكتلة القومية في العراق وهي المهتمة كثيراً بالوحدة مع (ج. ع. م) بل والضاغطة على عبد السلام عارف بضرورة تحقيقها، أن اتفاقية القيادة السياسية الموحدة ما لم يتحقق اجتماعها الاول، أينما يعقد، فإنها ستبقي حبراً علي أوراق، وبدأت تحاول اعادة ترغيب رئيس الجمهورية بالعدول عن رأيه، والسفر علي رأس الوفد العراقي في القيادة المذكورة الي القاهرة ولكن دون جدوي.
ولغرض التوصل الي حل للإشكال القائم، أرسلت القاهرة أحد كبار مسؤولي مباحث أمن الدولة، مبعوثاً خاصاً الي بغداد في زيارة لم يُعلن عنها في أوائل 1965 للتباحث في زيارة الرئيس عبد الناصرالمرتقبة للعراق، ومدي امكانية تأمين الحماية الشخصية له..
سعيد صليبي
فاجتمع طويلاً مع مدير الامن العام المقدم الركن رشيد محسن ومدير الاستخبارات العسكرية المقدم الركن هادي خماس وكلاهما من اعضاء قيادة الكتلة القومية قبل ان يبحث الموضوع مع العميد سعيد صليبي قائد موقع بغداد وآمر الانضباط العسكري لكونه المسؤول المباشر عن تحريك ونشر القوات المكلفة بحماية مدينة بغداد وضواحيها، ولان افراد الانضباط العسكري هم ايضاً مسؤولون عن تطبيق جزء من (خطة امن بغداد).
ومن غرائب الأمور ان اولئك الثلاثة أوضحوا جميعاً أنه يصعب كثيراً تأمين سلامة الرئيس عبد الناصر في تلك الظروف لسببين أساسيين، أولهما كثرة أعدائه واحتمال وقوع محاولة تستهدف حياته، وثانيهما كونه محبوباً وذا شعبية واسعة لدي جماهير العراق، إذ لا يمكن معها العمل علي منع او تحديد اندفاعها وتقرّبها من موكبه أينما سار في بغداد او مدن العراق الاخري، حيث يمكن استغلال ذلك الاندفاع ليندسّ أحد الاعداء ويتقرب اليه ويحدث ما لا يحمد عقباه، فتخسر الامة العربية شخص الرئيس عبد الناصر..
ويخسر العراق سمعته، حسب وصف السيد صبحي عبد الحميد، الذي كان يتولي وزارة الداخلية، ويخضع الامن الداخلي في العراق ومن بينها أمن كبار المسؤولين لمسؤولياته الكبري، فقد حضر امامه مدير جهاز المباحث المصري مع القادة العراقيين الثلاثة، وفي مكتبه الخاص، ليوضحوا له الحقيقة المّرة بعينها، وبعد اجراء مناقشات مسهبة توصلوا جميعاً إلي أن من الصعوبة بمكان تأمين سلامة الرئيس عبد الناصر، أمسي السيد صبحي عبد الحميد أمام موقف محرج للغاية، سواء لكونه وزيراً للداخلية، أو كزعيم لـلكتلة القومية التوّاقة الي تحقيق زيارة واحدة للرئيس عبد الناصر الي أرض العراق، إضافة الي محاولته للخروج من أزمة عدم قبول الرئيس عبد السلام عارف للقيام بزيارة اخري الي مصر ما لم يزُر الرئيس عبد الناصر العراق ولو لمرة واحدة..
ولكنه اضطر بحكم مسؤوليته ان يوضح واقع الحال ـ ولو علي مضض ـ امام رئيس الوزراء الفريق طاهر يحيي، قبل ان يعرضه امام رئيس الجمهورية، الذي بدوره سكت ايضا علي مضض.
ولكن، وعلي الرغم من كل ذلك، أصّرت الكتلة القومية علي ضرورة ان تواصل القيادة السياسية الموحدة اجتماعاتها في القاهرة كي يبرهن العراق نفسه انه سائر فعلاً علي طريق الوحدة مع (ج. ع. م)، في حين لم يكن الرئيس عبد السلام عارف علي قناعة تامة بإجراء زيارة اُخري الي القاهرة بشكل مطلق.. ولم يبق امام الكتلة الا مواصلة الاقناع والضغط عليه في معظم اجتماعات المجلس الوطني لقيادة الثورة، حتي اضطر عبد السلام عارف إلي القيام بزيارة سادسة الي مصر في شهر ايار (مايو) 1965، أي بعد انقضاء حوالي خمسة اشهر علي إعلان تشكيل القيادة السياسية الموحدة رسمياً.
ازمة ثقة بين الرئيس عارف والكتلة القومية
لم تكن ممانعة عبد السلام عارف من زيارة مصر مرة لاحقة لعقد اجتماع رسمي مشترك للقيادة السياسية الموحدة بالأمر الوحيد الذي أحدث خلافاً بينه وبين الكتلة القومية، إذ كانت هناك آراء متباينة وأفكار متضادّة وشكوك عديدة تسبّبت في إحداث أزمة ثقة ترسّخت يوماً بعد يوم بين الطرفين.
وكانت بدايات الازمة في آذار (مارس) 1964، إذ لم تنقض سوي أربعة أشهر علي نجاح حركة 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963حين طالبت الكتلة القومية، الرئيس عبد السلام عارف بتشكيل مجلس قيادة الثورة ليصبح الحكم جماعياً في خطوة للحدّ من نزعته الفردية في الحكم، والتي بدأت تظهر علي شخصه ـ حسب رؤية الكتلة ـ ولم يوافق عبد السلام الا بعد ضغط شديد، واضعاً بخط يده في المادة (13) من قانون المجلس المذكور نصوصا تمنحه صلاحيات استثنائية لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد تلقائياً، حيث مارست (الكتلة) مجدداً ضغطاً مضافاً عليه منتصف شهر تموز (يوليو) 1964 حتي اضطر إثر ذلك الي إلغاء فقرة التجديد التلقائي لترؤسه المجلس ولكن دون ان يستطيع المجلس الوطني لقيادة الثورة ردعه من ممارسة الحكم الفردي، حسب ما يراه السيد صبحي عبد الحميد الذي يقول ايضا ان شكوكا ترسّخت لدي قيادة الكتلة القومية بأن الرئيس عبد السلام عارف غير جاد في قرارة نفسه لتحقيق الوحدة مع (ج. ع. م) تمسكاً بكرسي الحكم الذي بات يهواه ويعشقه،علي الرغم من تظاهره باتخاذ خطوات الوحدة لأسباب عديدة أهمها: أنه نادي بالوحدة الفورية بعيد انبثاق ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، تلك التي جلبت علي شخصه مشاكل كبري قدم علي إثرها للمحاكمة أواخر عام 1958، اذ حكم عليه بالاعدام في اوائل عام 1959، فلم يكن باستطاعته التخلي جهاراً عن شعارات الوحدة بعد ان أمسي بمنصب رئيس الجمهورية، اضافة الي الضغط الشعبي المتعاظم والإلحاح الشديد من لدن معظم اعضاء المجلس الوطني لقيادة الثورة وتنظيمات الاتحاد الاشتراكي وعموم الضباط القوميين بعد نجاح 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963. ويعتقد السيد صبحي عبد الحميد ان محاولات عبد السلام الحثيثة للإبقاء علي علاقة جيدة مع مصر، لكون محور (القاهرة ـ بغداد) يعني التحكم والسيطرة علي سياسات الاقطار العربية الاخري، ولكن ذلك لم يكن حباً منه للوحدة وايماناً بها، بل كان لتحقيق مصلحة شخصية لاستقرار نظام حكمه، ليس إلا، ويضيف عبد الحميد ولأن الوحدة العربية عقيدة راسخة في أعماق عبد السلام منذ الصبا، ولكنه أمسي يحلم ان يكون هو رئيساً لدولة الوحدة، أو يبقي رئيساً علي العراق ـ علي الاقل ـ في ظل الاتفاقيات الوحدوية التي عقدها مع القاهرة، ويضيف السيد صبحي عبد الحميد الي رؤيته الشخصية نحو الرئيس عبد السلام عارف انه كان ظاهرياً متحمساً للوحدة مع مصر، ولكنه كان يعمل في الخفاء ومن خلال أحاديثه الخاصة ضدها، وأن من دلائل عدم جدّية عبد السلام في تحقيقها، أنه في إحدي زياراته الي القاهرة التقي الجالية العراقية هناك في مبني السفارة العراقية، حيث تفوّه بعبارات طويلة قارن من خلالها الاوضاع الاقتصادية لدي البلدين، مشيراً الي أسعار المواد الغذائية واللحوم واللوازم الاستهلاكية فيهما، من دون ان ينتبه، أو يتوقع، وصول مثل تلك الاقوال والطروحات والمقارنات الي أسماع قادة (ج. ع. م) في حينه.
ويؤيد السيد ناجي طالب تلك الحقيقة حين يقول: كان الرئيس عبد السلام عارف واقعاً تحت ضغط قادة الكتلة القومية في العراق بالاسراع لتحقيق الوحدة مع (ج. ع. م)، ولكنه لم يكن متحمساً لها بخلاف ما كان عليه الامر في الظاهر ـ علي الاقل ـ بعيد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، ويضيف ان الرئيس جمال عبد الناصر كان حذراً، بل ومتخوفاً من الاسراع في تحقيق الوحدة مع العراق لاسباب عديدة، قد يكون اهمها:
فشل تجربة الوحدة مع القطر السوري، والتي قامت في الحادي والعشرين من شباط (فبراير) 1958 وأجهضت في الثامن والعشرين من ايلول (سبتمبر) 1961، وعدم استقرار الاوضاع السياسية في العراق منذ عام 1958 ولسنوات عديدة متتالية، يضاف الي ذلك البعد الجغرافي الفاصل بين العراق ومصر، وكون قادة وحكومات الاقطار العربية التي تفصل بينهما من المناهضين لتلك الوحدة، ناهيك عن اسرائيل.
ويري السيد ناجي طالب ايضا أن الحماس للوحدة لا يكفي لتحقيق وحدة بين بلدين، ففي العراق ولدي الكتلة القومية خصوصاً كان الحماس متوفراً، بل وشديداً جداً، وذلك علي خلاف الجانب المصري الذي لم يتوفر لديه الحماس ذاته.
عبد الناصر حذر من الوحدة مع العراق
ولكن السيد صبحي عبد الحميد لا يؤيد ذلك، اذ يقول: ان القيادة في القاهرة كانت تتحجّج في حينها، مرة بالمشاكل الداخلية القائمة في العراق، ومرة اخري بالحاجز الجغرافي بين القطرين، بعد ان لمست ان الرئيس عبد السلام عارف امسي يتحدث عن الوحدة دون إبداء رغبة صادقة في تحقيقها، إذ كانت تلمّح لنا بين فترة واُخري بعدم رغبة رئيس العراق في إتمامها.. وإننا علي الرغم من كل ذلك، كان إيماننا راسخاً بأن الرئيس عبد السلام عارف لو كان جاداً، ولم يكن قد انبهر بحلاوة كرسي الرئاسة، لتخطّت مصر كل العوائق وحقّقت الوحدة، ولا ينكر السيد صبحي عبد الحميد في هذا الشأن، ان الرئيس عبد الناصركان حذراً من فشل تجربة وحدة ثانية تتم مع العراق، بعد فشل تجربته الاولي مع سوريا التي لم تدم سوي اقل من ثلاث سنوات، ناهيك عن الحاجز الجغرافي الفاصل بين العراق ومصر الذي يشكل عاملاً سلبياً مضافا، ويعتقد السيد ناجي طالب في الشأن نفسه، أن الرئيس عبد الناصر كان يكن حباً واحتراماً شخصياً للرئيس عبد السلام، مدركاً تماماً مدي الحرج الذي يتعرض له بإصرار الكتلة القومية علي تحقيق وحدة فورية او سريعة مع مصر، ولما كان الرئيس عبد الناصر مقتنعاً ومؤمناً ان بلوغ هذا الهدف لم يحن أوانه بعد، فقد اعلن وبصراحة ان الطرفين، وفي تلك المرحلة بالذات، ينبغي ان لا يقّدما للاعداء هدفاً مادياً يستطيعون تدميره،الا وهو دولة الوحدة،او الوحدة الدستورية ، بل عليهما ان يضعا امامهما هدفاً لا يستطيع خصومهما النيل منه، كوحدة العمل العربي التي ظل ينادي بها الرئيس عبد الناصر في تلك المرحلة وما تلاها من سنوات وحتي وافاه الاجل عام 1970.
ويقول السيد صبحي عبد الحميد انه سمع من الرئيس عبد الناصر، بعد اجتماع رسمي للجانبين العراقي والمصري في مجلس الرئاسة المشترك خلال شهر تشرين الاول (اكتوبر) 1964، بأن الرئيس عبد السلام عارف، غير جادّ في موضوع الوحدة، لذلك فإنه ـ أي الرئيس عبد الناصر ـ يتمني ان يبقي العراق دون وحدة، ولكن من الضروري ان يظل قوياً ليحل مشاكله القائمة ويستمر في تعاونه القائم مع الجمهورية العربية المتحدة، إذ ان وحدة الهدف بين القطرين الشقيقين وتضامنهما في هذه المرحلة أهم بكثير من تحقيق الوحدة نفسها، ويضيف عبد الحميد انه تأثر كثيرا من كلام عبد الناصر، وهو المُعجب به والشغوف بتوجهاته وآرائه السياسية وأهدافه الاستراتيجية، ويتذكر انه نقل ما سمعه الي قيادة كتلته القومية عندما عاد الي بغداد ومن الطبيعي ايضاً ان يتوجّس اولئك من ذلك الطرح.. ولما كان العديد منهم اعضاء دائمين في المجلس الوطني لقيادة الثورة، اضافة الي مناصبهم الخطيرة في الدولة وقواتها المسلحة، فإن توجسهم قد أضاف آثاراً سلبية تجاه علاقاتهم بالرئيس عبد السلام عارف، اضف الي ذلك كله أنه ساد اعتقاد لدي قيادة الكتلة القومية بأن الرئيس عبد السلام عارف لم يعد راغباً بالإيفاء إزاء التزامات كان قد قطعها مراراً بإبعاد الجيش والقوات المسلحة عن السياسة وحل جميع الكتل فيهما، والتي أملاها في كتاب تكليف الفريق طاهر يحيي عند تشكيله لوزارته الثالثة في أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) 1964 حيث دعت إلي ذلك الفقرة الرابعة من كتاب التكليف، ونصها: الاهتمام ببناء الجيش والقوات المسلحة وإبعادها عن السياسة كليا، إذ راود الشك اعضاء تلك الكتلة بأن عبد السلام عارف يستهدف حل تنظيمات كتلتهم القوية لخشيته منها دون الكتل الاخري التي يترأسها كل من اللواء عبد الرحمن محمد عارف والعقيد الركن بشير الطالب والعميد سعيد صيلبي، في حين كانت الكتلة القومية علي استعداد لحل تنظيماتها ، كما يؤكد السيد صبحي عبد الحميد، ولكن السيد ناجي طالب لا يتفق مع هذا الرأي ويقول ان ما يذكره السيد عبد الحميد بهذا الصدد يمثل رأيه الشخصي، إذ من المحتمل جداً ان الضباط الآخرين في قيادة الكتلة القومية غير مقتنعين بذلك، في حين ان الكتل والتنظيمات السياسية الاخري التي تغلغلت بقوة واستقرت في عموم تشكيلات القوات المسلحة في حينها، فإنها لم تكن علي استعداد للتفريط في حلّ نفسها وتنظيماتها. يضاف الي ذلك ان عددا من قياديي الكتلة القومية تصوروا أن عبد السلام عارف بدأ يجنح الي الحكم الفردي، بينما كانوا هم يؤمنون بالقيادة الجماعية، ريثما تتم إعادة الحكم الديمقراطي بأحزابه المتعددة ومؤسساته الي العراق ـ كما يقول السيد صبحي عبد الحميد ـ ويضيف ان الكتلة القومية كانت تؤمن بضرورة تطوير (الاتحاد الاشتراكي العربي) والاعتماد علي تنظيماته كقاعدة شعبية وحيدة لإسناد نظام الحكم، وهو الذي تأسس في العراق يوم الرابع عشر من تموز (يوليو) 1964 ولكن لما وجد ان الاتحاد اتخذ رأياً مستقلاً وكياناً واضحاً ومؤثراً، ولم يكن أداة للتطبيل والتزمير والتصفيق لشخصه، وأنه بات يضغط بشكل جدي من أجل تحقيق الوحدة مع مصر، عندئذ تراجع عن رأيه، والقول ما زال للسيد عبد الحميد الذي كان يري مع زملائه في الكتلة القومية ان الرئيس عبد السلام عارف يتّبع سياسة (فرّق تسُد) بين الكتل السياسية والعسكرية والوزراء وكبار ضباط القوات المسلحة، مما تسّبب في خلق بلبلة وعداءات لا تخدم مصلحة الوطن، واخيرا كان قادة الكتلة القومية يعتقدون ان عبد السلام علي الرغم من كونه رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة، إلا انه كان يقرر المسائل المهمة التي تخص امور مجلس الوزراء ومهماته، لذلك رأي العديد من الوزراء ان رئيس الجمهورية يتدخل في صلاحياتهم ومسؤولياتهم وامور وزاراتهم.. ولما كانت هناك ازمة ثقة قائمة بينه وبين وزراء الكتلة القومية علي وجه الخصوص، فإن هؤلاء كانوا اكثر حساسية من باقي الوزراء في هذا الصدد بالذات، إذ رأي البعض منهم انه يحاول تسخير اجهزة الاذاعة والتلفزيون في تمجيده الشخصي ـ علي حد رأي السيد عبد الحميد ـ مع ان مثل هذه الامور تبدو طبيعية لدي معظم دول العالم الثالث، وخصوصاً في بلد مثل العراق.
قلق القيادة المصرية
لتلك الاسباب ولغيرها من الامور الأقل اهمية، فقد ترسّخ الرأي لدي معظم قادة الكتلة القومية بضرورة تغيير الرئيس عبد السلام عارف من منصبه بغية تحقيق قيادة جماعية تؤدي الي تحقيق سريع للوحدة، اما القيادة في مصر فقد اصابها القلق الشديد، عندما علمت عن كثب، بتطور الخلافات بين الرئيس عبد السلام عارف وبين مجموعة مهمة ورئيسة واساسية في السلطة تؤمن بوحدة الامة العربية، لذلك فقد استمر الرئيس جمال عبد الناصر في إلحاحه علي ضرورة استقرار الوضع السياسي والنظام القائم في العراق وتماسك وحدة قيادته كي يكون حليفاً قوياً للجمهورية العربية المتحدة ضمن الاطار العربي والاقليمي والدولي، إذ كان يشعر بأهمية العراق وقدراته العسكرية والسياسية والاقتصادية، وتأثير اتفاق وجهات النظر بين القاهرة وبغداد، وتمتين اواصر الصداقة والتضامن بينهما، ومشاركتهما في وحدة الهدف، وذلك مما يؤدي بالنتيجة الي التأثير علي سياسة باقي الدول العربية كي لا تنساق كثيراً الي التأثّر بسياسة دول الغرب الاستعمارية، أو غيرها..
وكانت من اُولي أولويات السياسة المصرية تجاه العراق ان تبقي قيادته موحدة بزعامة الرئيس عبد السلام عارف، إذ كانت تعتقد ان وجوده ـ علي الرغم من تراجعه عن تحقيق الوحدة مع مصر ـ مهم وضروري، كي يبقي العراق القوي الي جانبها، بل وكانت تخشي ان تسوء العلاقات بين القاهرة وبغداد كما ساءت خلال العهد الملكي ونظام حكم عبد الكريم قاسم وسلطة البعث عام 1963، مما يضعف مصر والعراق معا، وكانت تري أن تعاون الكتلة القومية مع شخص الرئيس عبد السلام ضرورة حتمية لتقوية مركزه السياسي والتي تقوّي بالتالي مركز العراق، ولذلك فقد عمدت القيادة المصرية جاهدة للتوسط في سبيل حلّ كل خلاف ينشأ بين الكتلة المذكورة والرئيس عبد السلام عارف.
برنامج عمل سري
كان من أهم الوساطات تلك، تلك التي قام بها الرئيس عبد الناصر بعد انتهاء الاجتماعات الرسمية للقيادة ا لسياسية الموحدة في القاهرة خلال الفترة من 19 ـ 21 ايار (مايو) 1965، وذلك عندما جمع في منزله كلاً من الرئيس عبد السلام عارف والسيدين صبحي عبد الحميد وعبد الكريم فرحان من الكتلة القومية وبحضور السيدين ناجي طالب وزير الخارجية ومحسن حسين الحبيب وزير الدفاع عن الجانب العراقي، وعبد الحكيم عامر وزكريا محي الدين وعلي صبري عن الجانب المصري في الثالث والعشرين من ايار (مايو) لتصفية الاجواء المتعكّرة وإزالة اسباب الخلاف حين أوضح عضوا الكتلة خلافاتهما مع الرئيس عبد السلام عارف بصراحة متناهية، باُسلوب يشبه (نشر الغسيل علي الحبال) علي حد وصف السيد ناجي طالب، مما جعل الرئيس عبد السلام عارف فـي موقف صعب للغاية في تلك الجلسة، حيث لم ينفض الاجتماع إلا بعد الاتفاق علي (برنامج عمــل سري) تم توزيعه علي الحضور في ذلك المساء فقط، دون إعلانـــه في وسائل الاعلام، إذ ينص في أهم بنوده وفق ما يقوله السيد امين هويدي في كتابه (كنت سفيرا في العراق) علي:
اولاً: ناقشت القيادة السياسة الموحدة ظروف البلدين والعوامل المؤثرة لتدعيم العمل الوحدوي في أول اجتماع لها في القاهرة للفترة من 19 ـ 25 ايار (مايو) 1965.
ثانياً: الوحدة هي أسمي هدف يسعي اليه الشعب في البلدين.. وليس المهم إقامة الوحدة فحسب، بل ان الواجب يقضي تقويتها لمواجهة التحديات التي تأتي من الرجعية والاستعمار.
ثالثاً: ان العمل الاساس المتحكم في طريق الوحدة هو تحقيق الوحدة الوطنية في العراق التي تتطلب: وحدة القيادة السياسية، ووحدة الجيش وإبعاده عن الحزبية والتكتلات السياسية، ودعم الاتحاد الاشتراكي، وفعالية القيادة السياسية الموحدة.
ويضيف السيد هويدي ان البرنامج حدد مستلزمات وحدة القيادة السياسية في العراق بثلاثة بنود هي:
اولاً: تدعيم الروابط والعلاقات لتحقيق وحدة الفكر والعمل.
ثانياً: الاتفاق علي برنامج سياسي، مع تحديد فترة انتقال، وموعد انتخابات لتأسيس مجلس اُمةً.
ثالثاً: الاتفاق علي برنامج اقتصادي واجتماعي.
اما في ما يتعلق بوحدة الجيش وإبعاده عن الحزبية والتكتلات السياسية، فالمسألة واضحة، وحول دعم الاتحاد الاشتراكي، فيقول السيد هويدي ان الرئيس عبد الناصر قد أبدي اهتمامه الشخصي به ووضعه تحت رعايته، والأخذ بمبدأ التفرغ في العمل بالمراكز الرئيسة، وضمّ العناصر القومية إليه وإبعاد أعداء الثورة والانتهازيين، والعمل علي إذابة التناقضات والتكتلات الحزبية داخل الاتحاد الاشتراكي بغية خلق تنظيم سياسي يعتمد عليه في العمل الوطني.
وبالنسبة الي فعاليات وصلاحيات القيادة السياسية الموحدة، فقد جاء في البرنامج:
اولاً: يجوز أن تجتمع هذه القيادة بكامل هيئتها، أو جزء منها، حسب مقتضيات العمل.
ثانياً: تشكيل أمانة عامة للقيادة تتكون من أمين عام وعضوين، تكون واجباتها: تلقّي توجيهات القيادة ووضع برنامج لتنفيذها، ومتابعة تنفيذ القرارات، ورفع تقارير عما تم تنفيذه، وتشكيل لجان فنية مختلفة حسب ما يقتضيه الموقف، ورفع دراساتها الي القيادة.
ثالثاً: تعقد القيادة اجتماعها القادم في القاهرة أوائل تموز (يوليو) 1965، عقب إنتهاء المؤتمر (الآسيوي ـ الافريقي) الذي سيعقد في الجزائر.
آمال كبيرة تواجهها معضلات
كان كل ما سُطّر علي الورق من مبادئ وعبارات تبشر بالخير وخاصة بين أصحاب الآراء المتصارعة، إلا أن ظروفاً كثيرة ومؤثرات متعددة حالت دون أن تُؤتي تلك المحاولات ثمارها، فتعمّقت الخلافات دون سبب، وسط أزمة ثقة شارك الجميع في صنعها وتعميقها، ووسط أحقاد ومطامع شخصية سيطرت علي الجميع.. وتاهت الاغراض الكبيرة وظلت طريقها.. وسرعان ما تبخّرت الآمال تحت الانفعالات الساخنة والعواصف المندفعة والحزبية المنغلقة والفردية المدمرة.. فافترق الرفاق وانشقّ الأصدقاء، وأصبح كل طرف يشك بالآخر، وانقسم الافراد ذوو المصلحة الواحدة علي أنفسهم أمام أعداء متحدين يتحّينون الفرصة المناسبة لينقضّوا.. كما مُلئت ليالي بغداد بالخناجر الحادة التي تبرق وتلمع وقد سحبت من أغمادها في انتظار أن تهوي، كما يقول السيد أمين هويدي في وصفه للحالة وقتئذ.
انقلاب هواري بومدين
في صبيحة التاسع عشر من حزيران (يونيو) 1965 فوجئ العالم العربي بانقلاب لم يكن متوقعاً في الجزائر، قاده العقيد هواري بومدين نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع، الذي أعلن نفسه رئيساً لمجلس قيادة الثورة، مُقيلاً الرئيس أحمد بن بلا ومعتقلا إياه، متّهماً إياه بأنه ديكتاتور وخائن قام بسلسلة من التصرفات السيئة، وكانت التعليقات التي بثتها إذاعة ومحطة تلفزيون بغداد توحي بقلق عراقي شديد تجاه ذلك الانقلاب، فيما نشرت صحف اليوم التالي عناوين رئيسة تشير الي حدوث مظاهرات عنيفة ومصادمات دموية كبيرة في شوارع مدن الجزائر تأييداً لـ )بن بلا)، والي اجتماع لمجلس الوزراء العراقي استغرق أكثر من ساعتين لتقييم الموقف هناك، وقرار رئيس الجمهورية بإيفاد السيد ناجي طالب وزير الخارجية الي العاصمة الجزائرية بمهمة خاصة. كان الموقف الشعبي والرسمي والإعلامي للعراق مضاداً للانقلاب تماماً، إذ كان أحمد بن بلا شخصية عربية سياسية وثورية يكنّ له العراقيون مودّة خاصة لمواقفه الجريئة ضد الاستعمار الفرنسي الذي حكم الجزائر بالنار والحديد طيلة عقود عديدة.. وكانت ثمة علاقة ودية اكبر وأعمق توثّقت بينه وبين الرئيس عبد السلام عارف الذي ارتبط بصداقة وطيدة معه طيلة سنتين مضتا.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابعة:
http://www.algardenia.com/fereboaliraq/8968-2014-02-18-19-50-26.html
344 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع