عبد السلام محمد عارف.. كما رأيته/الحلقة الثالثة
زوجة الرئيس استدعتني مرة واحدة خلال عملي في حماية دارهم تشكو لي بصوت خافت تصرفا من أحد جنودي إزاء ابنة جيرانهم!!
مقدمة:عبد السلام محمد عارف.. ضابط عراقي عربي، دخل التاريخ من أوسع أبوابه في الرابع عشر من تموز (يوليو) 1958 عندما قاد اللواء العشرين من جلولاء وهو آمر فوج ويحمل رتبة عقيد ركن، وفجر ثورة في العراق، توجت نضالات وتضحيات العراقيين ضد الاستعمار والقوي الرجعية وسياسات الأحلاف والمعاهدات التي كبلت العراق وعزلته عن أمته العربية،
وشكلت علامة مضيئة علي طريق التحرر والانطلاق نحو آفاق التقدم والتنمية الوطنية والوحدة العربية، لذلك ليس غريبا ان تقترن ثورة تموز (يوليو) باسم هذا الرجل الذي ضرب أروع الدلالات في الإيثار الوطني والالتزام الاخلاقي، عندما تنحي عن موقعه الفعلي كقائد للثورة ومنفذها الاول الي زميله ورفيقه الزعيم الركن (العميد) عبد الكريم قاسم آمر اللواء التاسع عشر، وفاء منه لكلمة شرف واتفاق اخوة وقسم علي التعاضد والتعاون بما يخدم العراق والأمة العربية، علما بأن الاخير الذي وصل الي بغداد بعد نجاح الثورة بخمس ساعات واحتل مكانه في وزارة الدفاع كرئيس للوزراء وقائد عام للقوات المسلحة ووزير للدفاع، لم يقابل صنيع عبد السلام وفروسيته، الا بالجحود والتعالي، الامر الذي أدي الي انتكاسة الثورة وانحرافها عن الأهداف الوطنية والقومية التي قامت من أجلها، واعتقال مفجر الثورة ومحاكمته وسجنه وإصدار حكم باعدامه في سياق عملية كيدية للانتقام من دوره البطولي في انبثاق الثورة ونجاحها.
وكما عاني عبد السلام عارف ظلما واجحافا من زميله السابق عبد الكريم قاسم، فانه واجه غبنا وتهميشا من رفاقه الجدد عقب حركة الثامن من شباط (فبراير) 1963 عندما حاول البعثيون استغفاله والتجاوز علي مكانته وموقعه، وهم الذين استعانوا به كاسم وطني لامع ووجه قومي بارز، لصدارة الحركة واستثمار رصيده الثوري في مواجهة المعسكر المناوئ للوحدة والتيارالقومي من شيوعيين واكراد انفصاليين وبقايا العهد الملكي المباد، ولأن عبد السلام استوعب درس عبد الكريم قاسم جيدا، وأدرك بعد سنوات القهر الخمس التي أعقبت ثورة تموز (يوليو)، أن الاخوة والرفقة التي جمعته مع البعثيين لها التزامات مشتركة عليه وعليهم، وكل طرف يتهاون أو لا يحترم ما التزم به، يتحمل نتائج أعماله، لذلك اضطر عبد السلام الي حسم الامر معهم في الثامن عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 وأنقذ العراق مرة أخري من الفوضي وتناحر البعثيين وانشقاقاتهم.
والذين يستذكرون العامين والشهور الخمسة التي كان فيها عبد السلام عارف رئيسا للعراق من معاصرين له، او مؤرخين منصفين لعهده، لا بد وأن يتوقفوا إزاء سلسلة انجازات تحققت في هذه الفترة القصيرة، علي صعيد الأمن والاستقرار في البلاد والسلم الاجتماعي وسيادة القانون، والقرارات الاشتراكية والتشريعات التقدمية في استثمار الموارد والثروات الوطنية واتساع الخدمات البلدية والتعليمية والصحية والاجتماعية، وكلها موثقة لا تحتاج الي اثباتات.
وقد تعرض عبد السلام عارف في حياته وبعد وفاته في ذلك الحدث الجلل في الثالث عشر من نيسان (ابريل) 1966 الي ظلم كبير من قيادات حزبية وطائفية وعرقية تجنت عليه بدوافع سياسية، نتيجة استقامته وتواضعه، وثباته علي منهجه الوطني والقومي، وقد اتهم ولا يزال من قبل أوساط شيعية مقربة من ايران، بأنه طائفي سني، وتنسي او تتناسي انه هو من سمح لآية الله الخميني رجل الدين المعارض للشاه، بالقدوم الي العراق من منفاه في تركيا مطلع عام 1964، والاقامة والتدريس في النجف معززا ومحميا من عملاء الشاه البهلوي الايراني، واتهمته أطراف أخري بالدكتاتورية، رغم ان سيرته في الحكم والسلطة تؤكد عدالته ونزاهته اضافة الي بساطته ونقاء سريرته، واتهمه بعض قيادات القوميين بعدم الحماس للوحدة وأثبتت الايام انه قومي صلب ووحدوي أصيل.
عراقيات يبكين رحيل الرئيس
عبد السلام عارف رحل الي جوار ربه، نظيف اليد والجيب والوجدان، لم يترك لبناته وأولاده أرصدة وعقارات وممتلكات، ولعلها من المصادفات الجميلة ان يصدر كتاب يؤرخ لجانب من حياة الرئيس الراحل عبد السلام عارف وفي هذا الزمن الذي صار فيه العراق يرزح تحت الاحتلال الامريكي ويحكم من زمر طائفية وعرقية معادية لتاريخ العراق وتراثه الوطني وعروبته، وأجمل ما في الامر ان صاحب الكتاب أكاديمي عراقي ومن القومية التركمانية، ليس محسوبا علي حزب أو جماعة سياسية معينة، بدأ حياته عسكريا وقادته وظيفته ليكون قريبا من رئيس الجمهورية مسؤولا عن حماية داره وضابطا في الحرس الجمهوري، فكتب مشاهداته وانطباعاته بتجرد وحيادية، مدفوعا بموضوعية شديدة ووطنية مخلصة، بعيدا عن المبالغات واصطناع الحوادث والروايات. لقد سرد الدكتور صبحي ناظم توفيق أحداثا عايشها، أو كان قريبا منها أو عارفا ببعض تفاصيلها، وقدمها الي قراء كتابه كما جرت بدون تزويق ومغالاة، وهو جهد يشكر عليه، ومبادرة تستحق الثناء.
اسرة الرئيس عبد السلام
كانت عائلة الرئيس عبد السلام محمد عارف مكونة من زوجته، التي أنجبت له سبعة أبناء، أربع بنات وثلاثة بنين، هم علي التوالي (وفاء، رجاء، سناء، أحمد، جلاء، والتوأمان محمد ومحمود) ولم أتعرف علي اسم زوجته السيدة اُم أحمد (1) طيلة السنتين اللتين قضيتهما في الخدمة بالحرس الجمهوري. كانت امرأة في حدود الاربعين من العمر، متوسطة الجمال والقامة والبنية، ترتدي العباءة السوداء العراقية، سواءً عند خروجها من البيت لزيارة الجيران، او لدي استدعائها لأحد الجنود الحراس الي باب حديقة دارها لتكليفه بشيء ما، بكل أدب واُصول وأخلاق.. ولم تستدعني غير مرة واحدة الي باب الحديقة لتشكو لي بصوت خافت عن تصرف غير مقبول لأحد جنودي مع ابنة أحد الجيران، فقمت بإرساله مع ملابسه وتجهيزاته وسلاحه شبه موقوف الي مساعد آمر الفوج بسيارة الأرزاق ظهر اليوم نفسه.. ولم تتم معاقبته فحسب، بل نقل الي خارج وحدات الحرس الجمهوري فوراً.
كانت اُم أحمد تبقي وحيدة في البيت منذ الصباح حين يذهب الاولاد جميعاً الي مدارسهم حتي يعودوا ظهراً.. لم اُلاحظ تركها لدارها الا مرات قليلة لزيارة الجارات القريبات، ولم تكن تتنقّل بسيارة العائلة مع السائق لوحدها بشكل مطلق الا مع أحد اولادها، ولم أسمع لها لغواً او صياحاً مع زوجها، علي الرغم مما كان يُشاع لدي عامة الناس أنهما علي غير وفاق، ولكنها لم تكن تجلس مع الاولاد في الحديقة عندما يكون عبد السلام عارف جالساً معهم. ولربّما يكون هذا التصرف قد فرضه الرئيس ابو احمد لسبب او لآخر.. وقد شاهدت خروجها مع إحدي بناتها او أحد بنيها، او جميعهم معاً بسيارة العائلة والسائق أحمد الكرخي لزيارة الاقارب او الاصدقاء البعيدين، ولكننا لم نكن علي معرفة بوجهتهم، فليس من واجبنا ذلك الا ان إحدي البنات كانت تحضر الي مكتبي للاتصال هاتفياً بأبيها مباشرة لإخباره بذهاب العائلة الي بيت فلان، وما اكثر الزائرات اللواتي كن يحضرن اليها سواءً من الجارات او القريبات، وكيف لا؟ وهي زوجة رئيس الجمهورية، والتي يفترض ان تسمي السيدة الاولي، كما هو متعارف عليه في معظم بلدان العالم، وكانت إحدي اقرب صديقاتها التي تتزاور معها يومياً امرأة في مثل عمرها سيدة اسمها اُم صباح الساكنة في الركن المقابل للدار.
أبناء الرئيس
كانت (وفاء) الابنة الكبري متزوجة من ابن عمها الملازم الاول الطيار صلاح عبد السميع محمد عارف الذي كان طياراً علي طائرة قاصفة من طراز (إليوشن 28) في قاعدة كركوك الجوية، وكانا يسكنان في إحدي دور ضباط القاعدة المذكورة. ولم يكونا يزوران بغداد الا عند تمتّع الزوج بإجازة، ويحضران مع ابنتهما الوحيدة نادية في دار رئيس الجمهورية. ولم الاحظ خلال فترات مهماتي مبيت وفاء في بيت والدها مطلقاً.. وقد علمت أنها تنزل في مسكن عمها عبد السميع ولكني لم اُقابلها أو أر وجهها عن قرب..
أما (رجاء) فقد كانت فتاة في ربيعها السادس عشر، متوسطة القامة والبنية، بيضاء البشرة، جملية يانعة، أنيقة يافعة، تلميذة في الصف الرابع العلمي، مؤدبة وخلوقة يتمناها كل شاب.. وكانت تحضر مع أخيها أحمد او شقيقتها سناء عادة يومياً كي تتصل هاتفياً بأبيها او بإحدي صديقاتها او قريباتها، إذ كنت أترك المكتب لأتجول خارجه ريثما تنتهي وتترك المكتب.. وكلما كانت تخرج لتعود الي البيت فإنها تعتذر عن الإزعاج الذي سببّته لي وتشكرني، وخصوصاً عند إطالتها للمكالمة علي عادة جميع نساء العالم، وليس العراق فحسب.. وكانت تزور بنات الجيران القريبات بصحبة سناء او جلاء كثيراً، وبالأخص في أيام الجمعة او العطل.
والبنت الثالثة( سناء)، كانت في الثالثة عشرة من عمرها، لونها مائل الي السمرة، متوسطة القوام والبنية، طالبة في الصف الاول المتوسط، مؤدبة وذات اخلاق عالية حتي تبدو اكبر من عمرها، تصاحب اُختها رجاء دائماً، ولكنها كانت تحضر لوحدها بعض المرات للاتصال بالهاتف، وكانت علاقتها مع أخيها احمد سلبية، ولطالما سمعت صياحهما في حديقة الدار، والذي كان يخفت بتدخل الوالدة عادة.
أما أحمد الذي كان يبلغ من العمر إحدي عشرة سنة، فأبيض البشرة، متوسط القامة والبنية، ذو وجه جذاب، دائم الابتسامة، غاية في الادب والاخلاق والاصول، كان طالبا في الصف السادس الابتدائي في حينه. كان حضوره في مكتبي وقت العصر، اذ يتكلم بالهاتف مع أبيه، ويطيل في ذلك بعض الشي، حتي ينبهه والده ليكفّ، وأحمد يهوي العسكرية ويتلهف للتعرف علي الاسلحة، ولكن والده الرئيس قد نبّهنا مرات عديدة بعدم إفساح المجال له لمسك سلاح بين يديه وعدم مجاملته كثيراً..
كان احمد شغوفاً بالدراسة، ذكياً في طروحاته واستفساراته وتساؤلاته، وطالما كان يتمشي معي داخل الثكنة لينهال عليّ بوابل من الاسئلة المتعلقة بالاسلحة وانواع الطائرات وطرزها، وكذلك عن العلوم والتاريخ والجغرافيا عند عدم وجود والده في البيت، وبالاخص في ايام العطل الرسمية.. وبشكل عام لم يكن ميالاً الي اللعب مع أولاد الجيران في الشارع.
اما ابناء الرئيس الصغار جلاء والتوأمان محمد ومحمود فقد كانوا في الصفوف الاولي من الدراسة الابتدائية وقلّما كنت أراهم، لذلك فلم أتعرف عليهم عن قرب.
سينما الخيام
عائلة الرئيس عبد السلام ترتاد دور السينما ببغداد دوريا
كانت عائلة عبد السلام عارف ميّالة لمشاهدة عروض الافلام الجديدة في دور السينما ـ حالها حال معظم العائلات العراقية ببغداد ـ وكان سائقهم يقلهم بالسيارة الخاصة الي سينما الخيام أو سينما النصر او غيرهما لمشاهدة أحدث فلم جيد وجديد وقت العصر او في الدور الاول مساء.. وقد صادفتهم جميعاً وهم جالسون في مقصورتين بين مقصورات الطابق الثاني من الصالة، إحداهما للبنات وأمهنّ، والأخري للبنين، بينما كان السائق يجلس علي مقربة من المقصورتين في الصف الاول من مقاعد الصالة، ولربما كان الحضور هناك من الناس لا ينتبهون الي ان تلك العائلة هي عائلة رئيس الجمهورية.
كان الحاج أحمد الكرخي (أبو شهاب) قد جاوز الخمسين من عمره، اذ عمل جندياً سائقاً ثم ضابط صف سائقا مع عبد السلام عارف عندما كان ضابطاً في وحدات الجيش وهو الذي قاد سيارته العسكرية ايضاً حينما دخل بغداد صبيحة الرابع عشر من تموز (يوليو) لتفجير الثورة. وقد اُحيل الكرخي علي التقاعد لبلوغه السن القانونية وهو برتبة رأس عرفاء وحدة آلي، وقد ظلّ علي زياراته لـعبد السلام عارف خلال سنوات سجنه أو عند شبه الإقامة الجبرية المفروضة عليه حتي (ثورة 14 رمضان) 8 شباط (فبراير) 1963 حيث قرر رئيس الجمهورية ان يجعله سائقاً لسيارته الشخصية التي تخدم العائلة والبيت، ناهيك عن حسن سيرته وأخلاقه العالية.
كانت سيارة رئيس الجمهورية ملكه الخاص، وهي مسجلة باسمه، وكانت من طراز (مرسيدس 220) موديل 1963 لونها سمائي، وقد بُني لأجلها كراج صغير قرب باب الحديقة، وأنشئت فوقه غرفة بالمساحة نفسها لمبيت السائق عند اللزوم.
كان الحاج أحمد الكرخي غاية في الخلق والادب، طويل القامة، رشيق البنية، وقد غزا الشيب قسماً من شعر رأسه، متجهم الوجه غير مبتسم، يحسبه الناظر متكبراً في اُول لقاء ويتهمه بالغطرسة لكونه سائق رئيس الجمهورية.. لكنه سرعان ما يكتشف ان ذلك طبيعة خلقه..
كان نشيطاً في عمله، جدياً في حركاته، حريصاً علي خدمة السيارة طول النهار، لا يعرف المزاح او النكتة.. وعلي الرغم من كونه رأس عرفاء متقاعد ويرتدي الملابس المدنية، فإنه لم يقف امامي وانا الضابط الحدث إلاّ بالاستعداد .. وقلّما رفع نظره نحو عيني..
كان من عادته التمشي مع عريف فصيل الحماية داخل مقر الحماية وخارجه، وخصوصاً لدي شعوره بالوحدة والملل في غرفة مبيته فوق (الكراج)، إذ لم يكن يختلط بأي شخص من الجيران أو سكان المنطقة، وكان يتناول وجبات طعامه هناك بعد أن يتسلمها من يدي أحمد، نجل الرئيس، او من احدي البنات.
كان يحضر السيارة قبيل الساعة السابعة صباحاً، في الصيف او الشتاء، اذ يخرج السيارة ليوقفها قريبة من باب الحديقة، وفي السابعة والنصف ينقل اولاد الرئيس الي مدارسهم قبل ان يعود في حدود الثامنة، ليخرج مرة اخري لشراء اللحم والخضروات والفواكه ويرجع ليبقي حتي الظهر حين يعود بالاولاد جميعاً من مدارسهم، وكان يقضي الظهر في غرفته حتي بعد صلاة العصر، فإذا رغبت العائلة او الاولاد بالخروج فإنه يتكلف بذلك، وإلاّ فانه يدخل السيارة الي الكراج ويغادر الي مسكنه الذي لم أعرف موقعه، اما اذا حضر رئيس الجمهورية الي الدار، فإنه يبقي ملازماً فيها حتي يغادر. واذا ما رغب الرئيس ان يبيت ليلاً في بيته، فإن الحاج أحمد يبيت هو الآخر في غرفته الصغيرة الخاصة به فوق الكراج.
كان راتبه الشهري خمسة وعشرين ديناراً، يدفعه الرئيس عبد السلام عارف من جيبه الخاص، وذلك حسبما أعلمني الحاج احمد شخصياً، بينما يبلغ راتبه التقاعدي ثمانية وثلاثين ديناراً، وكان يُفصّل بدلة شتوية واُخري صيفية علي نفقة رئيس الجمهورية سنوياً، اذ لم يكن يرتدي القميص والسروال لوحدهما حتي في أشد أيام الصيف حرارة، وذلك من أجل إضفاء بعض الوقار علي شخص سائق رئيس الجمهورية وليخفي المسدس (براوننك) الذي كان يحمله دائماً تحت السترة.
إخوة عبد السلام
أكبر اخوة الرئيس عبد السلام محمد عارف هو الملازم المتقاعد عبد السميع صاحب (مكوي النعمان) الواقع علي شارع الامام الاعظم. لم اُقابله مطلقاً، ولم يصادف ان زار دار اخيه خلال أي تواجد لي في مهمة الحماية، ولم أعرف غير نجله الملازم الاول الطيار صلاح صهر عبد السلام كما أسلفت.
وكان اللواء عبد الرحمن محمد عارف الاخ الثاني، اكبر عمراً من عبد السلام . الا ان الاخير قد سبقه في الدراسة والقبول في الكلية العسكرية. وكان يشغل منصب رئيس اركان الجيش وكالة في حينه، اذ لم يثبّت بهذا المنصب الرفيع أصالةً لعدم اشتراكه بدورة في كلية الاركان.. ومثلما كان عليه الحال مع عبد السميع ، فإنني لم اُلاحظ شخصياً أية زيارة له او لعائلته لدار أخيه.
وكان صباح (أخوهم الأصغر، ومدلّل العائلة كما كان يحلو لبعض معارضي النظام تسميته) قد تخرج من كلية الحقوق ببغداد، متوسط القامة والبنية، جميل المنظر، وكان صديقاً لأولاد عبد السلام اكثر من كونه مجرد عمّ لهم.. يحضر الي البيت لوحده، إذ كان عازباً لم يتزوج بعد، وكانوا يرحبون به بحرارة، ويركض البنون والبنات نحوه ويتحاضنون معه ويقبّلوه ويقبّلهم. ولطالما كنت اسمع مزاحاتهم في حديقة الدار، ويخرج بالاولاد وصغار البنات عادة بسيارته الشخصية الصغيرة المتواضعة.
كان صباح يشغل وظيفة (الكاتب العدل) في مجمع محاكم الاعظمية الواقع علي الكورنيش ، ولا يرتدي الا بدلة انيقة حتي في صيف العراق القائظ، ويحمل مسدساً تحت سترته، ذلك المسدس الذي كان حديث بعض الناس الذين كانوا يتهامسون فيما بينهم فيما لو كان من حق أخ مدني لرئيس الجمهورية أن يحمل مسدساً.. ولكني علمت من السائق الحاج أحمد أن صباح محمد عارف قد حصل علي اجازة رسمية من الشرطة لحمل ذلك المسدس لاعتبارات تتعلق بوظيفته التي لها مساس بمشكلات الناس ومصالحهم يومياً.. أما عبد السلام فقد كان يعتبره شاباً متهوراً لعدم التزامه بأصول الدين والصلاة، لذلك لم يكن علي وفاق معه.
وكانت لي مع صباح مفارقة، كان حديث مسدسه الخاص من ضمنها.. ففي يوم من أيام صيف 1965 جاءني صديق يحتاج حلاً لمشكلته لدي المحكمة الشرعية في الاعظمية، وكان لي قريب هناك اسمه كامل حسين ويكني (أبو مؤيد) يشتهر بعصبية مزاجه وتدخينه لمئة سيجارة او اكثر يومياً، ويشغل منصب الكاتب الاول لدي المحكمة نفسها.. وعندما دخلت مكتب أبي مؤيد وجدته خالياً، إذ أفاد أحد موظفيه أنه ذهب الي مكتب الكاتب العدل ، فتوجهت مع ذلك الصديق الي تلك الدائرة.. ولدي اقترابنا منها سمعت صياحاً عالياً، سرعان ما اكتشفت أنه صادر من حنجرة أبي مؤيد ، حتي فتحت باب الغرفة لأجد صباح محمد عارف جالساً علي كرسي مكتبه وأبا مؤيد واقفا ويداه متّكئتان علي المنضدة، وهو يوجه كلاماً جارحاً وبصوت عالٍ إلي صباح، كانت آخر عبارته: (اُنظر في عيني فإنني انصحك ان لا تحسب نفسك أخاً لرئيس الجمهورية، فإن المسدس الذي تحمله سأضعه في فمك لو لم تكمل ما كّلفتك به)، بينما كان صباح يبتسم قائلاً: حسناً، حسناً يا أبا مؤيد، فإن طلباتك أوامر، فأنت الاكبر عمراً، وأنا أخوك الصغير،... آنئذ خرج أبو مؤيد معي وظلّ يتمتم طوال اجتيازنا الممر المؤدي الي غرفته.
والحقيقة أنني لم اُقابله او أتعرف عليه عن قرب، فقد كان يزور بيت رئيس الجمهورية، ولم يكن ـ استناداً الي التعليمات ـ خاضعاً لمساءلة عند إيقاف سيارته المتواضعة أمام باب الحديقة مباشرة.
الاقارب والاصدقاء
لم اُشاهد بأم عيني صديقا او قريبا للرئيس عبد السلام قد زاره في بيته، عدا بعض الجيران الذين كانوا يجلسون معه في الحديقة او داخل البيت لدقائق معدودات، فلربما كانوا يقدّرون محدودية أوقاته وكثرة مشاغله وضرورة تفّرغه لأفراد عائلته خلال تلك الساعات القليلة.
الا ان البعض منهم كانوا يؤقتون حضورهم قرب باب الدار مع مغادرته اياها، وخصوصاً عندما يشاهدون موكبه قد حضر.. وكان الرئيس عبد السلام بعد تبادل عبارات المجاملة معهم، يتسلّم منهم عرائضهم او رسائلهم المهيأة سلفاً قبل ان يناولها الي مرافقه الشخصي.. بينما كنا نحن آمري فصيل الحماية نتسلم العرائض من المواطنين، مهما كانت صفتهم، ونجمعها قبل ان نسلّمها باليد الي المرافق دون ان نتتبع مصيرها او الاجراءات المتخذة بحقها.
كان لآمر فصيل الحماية الحرية في استقبال أي صديق او قريب له في مكتبه، او للجلوس معه في حديقة الثكنة، وخصوصاً عند عدم حضور رئيس الجمهورية في بيته، ويقضي معهم ساعات طويلة ويجلب لهم الطعام من أحد المطاعم القريبة، وقد تعوّد معظم أصدقائي علي الحضور لزيارتي بمعدل يومي. وأذكر منهم علي سبيل المثال نجدت قاسم الصالحي، محمد أحمد الخطيب، وهبي شاكر مصطفي، الملازم أول الطيار مسرور بهاء الدين، الملازم المظلي عصمت صابر عمر، الملازم الملاح نهاد اسماعيل حقي، ولم تكن وجبات الطعام تصلنا من مطعم ضباط الفوج، اذ كنا نبعث لشراء طعام لنا من مطاعم الاعظمية وعلي نفقتنا الخاصة، ولم نكن نتقبل مطلقاً اية وجبة من بيت رئيس الجمهورية علي الرغم من الحاح زوجته عن طريق السائق الحاج احمد ، وخصوصاً في ايام الجمع او الاعياد او العطل الرسمية.
كنت اُلاحظ اثناء اتخاذنا لإجراءات حماية دار رئيس الجمهورية، وخصوصاً عند وجود الرئيس فيها، امتعاض بعض الناس في نظراتهم الغاضبة نحونا إثر منعنا لمرور السيارات في الشارع الفرعي الذي تطل عليه الدار قبيل وصول موكبه.. وكان البعض يتضجّر ويتمتم بعبارات غير مسموعة عادة. اذ كنا نعتذر ونبرّر ذلك بأنها أوامر واجبة التنفيذ.
وفي مفارقة لا أنساها... وبينما كنت أستطلع المنطقة المحيطة بدار رئيس الجمهورية في صباح أحد الايام الاولي من عملي في حماية دار الرئيس، وجدت لوحة صغيرة كتب عليها الدكتور خيري الجماس (توقفت عن المسير)، إذ أعادتني الذاكرة الي سنوات قليلة مضت. فهذا الطبيب كانت عيادته في كركوك وتربطه صداقة عائلية حميمة مع خالي المحامي السيد ناظم نوري الصالحي. ضغطت علي زر الجرس، وتأكدت من سكان الدار أنه المقصود فعلاً، وعرّفتُ نفسي إليهم بوضوح، واعداً إياهم بزيارة (الدكتور) ليلاً بعد عودته من العيادة، في حدود الساعة التاسعة والنصف.
ولكن يبدو انه لم يصبر عند إخبار اهله له بحضور ضابط الحماية في باب داره وهو يحمل مسدساً، حيث أخبرني احد الجنود بأن الدكتور خيري واقف بانتظاري في باب الثكنة.. فخرجت اليه مسرعاً، ولم يتذكرني، حتي تقربت اليه تماماً فصاح: ما الذي جاء بك الي هنا يا صبحي؟
أجبته: تخرجت في الكلية العسكرية قبل حوالي شهر وانتسبت الي الحرس الجمهوري، وكلّفتُ هذه الايام بهذا الواجب..ولكن ما الذي جاء بك انت من كركوك الي بغداد بينما أنت من أهل الموصل؟
قال: انها ورطة تورطت فيها...
استفسرت منه أية ورطة لا سامح الله؟ قال:
قُدرت لي هذه الورطة، فقد كان طموحي كطبيب ان افتح عيادة في بغداد ونقلت الي دائرة صحة العاصمة ، وتقدمت لخطبة فتاة، وحاولت العثور علي دار سكن، ففوجئت بالاسعار العالية للإيجارات التي لا تطاق، وما إن عثرت علي هذه الدار الفارغة حتي استهواني إيجارها المنخفض جداً (15) دينارا شهرياً فقط علي الرغم من كونها لائقة وكبيرة وذات مساحة واسعة وحديقة غناء وغرف متسعة وعديدة، ولم أكتشف أنها ورطة الا بعد ان استقررت فيها من حيث متاخمتها لبيت رئيس الجمهورية .
ـ ولماذا تحسبها ورطة يا دكتور؟
ـ إجراءات الحماية مزعجة.. جنود واسلحة.. تحديد حركة.. منع سيارتي من المرور في بعض الاوقات.. جنود في سطح الثكنة المتاخم لسطح بيتي.. إزعاجات اخري لا مجال لذكرها.. كل هذه ولا تحسبها ورطة ؟
ـ ولكن، هل يطل سطح الثكنة علي بيتكم؟ وهل يزعجكم الجنود عند صعودهم اليه؟
ـ إطلالة سطحكم علي بيتي ليست مباشرة والحق يقال والجنود لم يزعجونا.. ولكن مجرد إحساسي بوجود الجنود مدججين بالسلاح علي سطحكم يزعجني الي حد لا أستطيع معه النوم بعد الظهر.. وأنت تقدر جيداً أننا من اهل الموصل ومحافظون علي تقاليدنا وعاداتنا.
ـ إسمح لي يا دكتور خيري.. فأنت لست علي حق في تصوراتك، وأنت تهّول هذا الموضوع دون داع.
ـ لا والله يا صبحي، فإنني الآن اُحاول العثور علي دار سكن اخري في أية منطقة من بغداد، ومهما يبلغ ايجارها، فقد ضقت ذرعاً.
ودعت الدكتور خيري الجماس في تلك الظهيرة، وزرته في بيته ليلاً مرتين، قبل ان ينتقل الي دار اخري استأجرها في حي بغداد الجديدة.
هوامش
(1) أوضحت لي السيدة وفاء عبد السلام عارف عند زيارتي بيتها في حي اليرموك بحضور زوجها وابن عمها العقيد الطيار المتقاعد صلاح عبد السميع محمد عارف في الاول من نيسان (ابريل) 1997 ان اسم والدتها هو: ناهد حسين فريد الريس.
للراغبين الإطلاع على الحلقة الثانية النقر على الرابط أدناه:
http://www.algardenia.com/fereboaliraq/6327-2013-09-11-23-57-46.html
286 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع